تقع بلدة غصيبة التاريخية في منتهى الطرف الشمالي لحدود الدرعية القديمة، التي ظهرت للوجود في بداية النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، عندما قدِم مانع المريدي جدّ الأُسرة السعودية الحاكمة من بلدة الدروع في نواحي القطيف إلى أبناء عمومته في منطقة حجر اليمامة الواقعة على ضفاف وادي حنيفة. وحيث إنّ مانعاً كان سيداً لقومه فلم يرض بالاستقرار سوى في منطقة مستقلة عن ملك أبناء عمومته (الدروع)، فأقطعوه جزءاً مما كان تحت أيديهم من المناطق الواقعة على ضفاف وادي حنيفة. وليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقد اتفق أنً تلك المنطقة التي اختارها مانع أو اختيرت له وأسماها (الدرعية)، تيمُّناً بأجداده، تُعَدُّ من أفضل المواقع في المنطقة من حيث صلاحية أرضها للزراعة وتحصينها ومرور قوافل الحجيج والتجارة عبرها، فأكسبها ذلك مكانة وشهرة أسهمت في بروزها بسرعة إلى السطح ولعبها دوراً حيوياً في المنطقة. وقد كانت الدرعية تقع بين ما يُعرف قديما (المليبيد) جنوباً، وهي المنطقة الواقعة عند زاوية انكسار وادي حنيفة من الجنوب إلى الشرق، وهي في الوقت الحاضر داخلة ضمن نطاق مزرعة الأمير متعب بن عبد العزيز المسمّاة العلاقية، فيما يمتد الإقطاع شمالاً إلى أن يقف قبيل شعب غبيراء. وقد ذكر مخطوط ينسب للشيخ راشد بن خنين العائذي أنّ المنطقة كانت تسمّى قديماً الضيق وغبيراء، وقد اضمحل مسمّى ضيق الآن وانحصر في المنطقة التي تبدأ من فيضة شعب البليدة على وادي حنيفة المقابلة لبلدة غصيبة من الغرب ويمتد مغرباً ثم ينكسر ناحية الجنوب ثم شرقاً إلى أن يفيض مرة أخرى على وادي حنيفة ماراً بمزارع آل خميس وآل ناصر وآل عواد، أمّا غبيراء فما زال هذا الاسم يطلق على الشعب الواقع شمال الدرعية. والواضح أنّ مانعاً قد استقر هو وأتباعه ابتداءً في منطقة ما على ضفاف الوادي إلى أن استطاع أحد أحفاده، كما سيأتي بيانه، اغتصاب حصن غصيبة فسكنته ذرِّيته من بعده إلى نهاية القرن الحادي عشر، وبعد أن ضاقت البلدة على ساكنيها اختاروا مكاناً حصيناً آخر، فتم بناء حصن (الطريف) المعروف وفيه استقرت الأُسرة الحاكمة إلى عام 1233ه، حينما هدمته القوات العثمانية.والناظر إلى بلدة غصيبة يلحظ الدقة في اختيار موقعها، فقد اختير بعناية في زاوية التقاء شعب قليقل بوادي حنيفة، مما جعلها على رأس هضبة محاطة من ثلاث جهات بالوادي، فيما حصنت الجهة الشمالية بسور قوي عالٍ يصل سمكه إلى أربعة أمتار تتوسطه بوابة كبيرة تسمح بدخول قوافل الجمال المحملة بالأحمال، ويمكن رؤية البلدة كاملة وسورها الضخم واضحاً من خلال موقع Google earth.وقد مارست غصيبة دورها الإقليمي في حماية الحجيج المارِّين بمناطق نفوذها، وذلك بموافقة ومباركة من الباب العالي الذي كان يشرف إشرافاً عاماً على الحجيج بحكم خلافته على العالم الإسلامي آنذاك. وكان يشرف على الحجيج في أواخر القرن العاشر الهجري إبراهيم بن موسى من مقرِّه في قلعته في الدرعية، كما أثبتته إحدى الوثائق العثمانية، وهو إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي.وقد استمر دور غصيبة عاصمة لإقليم الدرعية، وفيها مقر الحكم إلى أواخر القرن الحادي عشر كما أسلفنا، ويستشف ذلك مما ذكره مؤرِّخو نجد كالمنقور وابن ربيعة والفاخري وابن بشر في أحداث عام 1065ه، قالوا: (وفيها قتل وطبان مرخان بن ربيعة واستولى على غصيبة). سبب التسمية! ولم أر في المصادر التي اطّلعت عليها ذكراً لسبب تسمية غصيبة بهذا الاسم، ولكن بالرجوع لدلالات الاسم يمكن استشفاف السبب، ذلك أنّ غصيبة تعني الشيء المأخوذ من صاحبه عنوة، وقد ذكرت المصادر التاريخية أنّ أمير الدرعية موسى بن ربيعة حفيد مانع المريدي، قد شنّ هجوماً جمع فيه أبناء عمومته من المردة والموالفة وصبح آل يزيد أهل النعمية والوصيل وأعمل فيهم القتل واحتل أراضيهم، وحيث إنّ النعمية قريبة جداً من موقع غصيبة وهي في ظني ما يسمَّى الآن (العلب) الواقع في شمال الدرعية، فقد كان موقع غصيبة داخلاً ضمن أملاك آل يزيد، ولعلّها كانت حامية لهم فاغتصبها منهم واتخذها مقراً للحكم لمنعتها وموقعها المثالي، ثم أخذ في تحصينها وتقويتها، وعليه فإنِّي أرجِّح ظهور غصيبة إلى الوجود اعتباراً من منتصف القرن العاشر الهجري، وهي الفترة التي تولَّى فيها موسى إمارة الدرعية. ولا يعرف على وجه التحديد متى انتقل مقر الحكم من غصيبة إلى حي الطريف الواقع على سفح الوادي إلى الجنوب من غصيبة بنحو كيلو مترين اثنين؟ ولكن المؤكّد أنّ انتقال مقر الحكم إلى الطريف كان بسبب ضيق غصيبة واكتظاظها بالسكان، الأمر الذي استدعى الحاكم آنذاك أن يختط حياً جديداً يلبي الاحتياجات المتجددة خصوصاً بعد توسُّع الإمارة، ولعلَّ ذلك كان في عهد الأمير محمد بن مقرن الذي تولّى الإمارة من عام 1084ه إلى عام 1106ه، أي ما يقارب اثنتين وعشرين سنة كثر فيها السكان وتزاحمت الدور فعجز حي غصيبة عن استيعابهم. ورغم انتقال مقر الحكم من غصيبة إلى الطريف، فإنّ الأولى لم تخل من السكان واستمرت تقوم بدورها إلى جانب بقية أحياء الدرعية، بل إنّ الإمام سعود بن عبد العزيز قد بنى فيها قصراً شامخاً وجعل بابه من حديد، ولا يزال أحد أبراج القصر باقياً حتى الآن يرتفع بشموخ رغم القصف المدفعي العنيف الذي تعرّض له القصر أثناء معارك احتلال الدرعية. وقد لعبت غصيبة دوراً مشرفاً في حماية البوابة الشمالية للدرعية أثناء هجوم قوات إبراهيم باشا عليها عام 1233ه، فقد اتخذها سعد بن عبد الله بن سعود حصناً أثناء معارك الدرعية، وقد تترس بقصر جده وقاوم هو ومن معه مقاومة شرسة لمدافع القوات العثمانية التي اتخذت من سفح هضبة الكويخا الواقعة إلى الغرب من غصيبة بمسافة تقارب 600 متر مقراً وأمطرت غصيبة والقصر بوابل من القذائف الحارقة والمدمرة حتى ثلمت رؤوس البروج والجدران، فلم يجد سعد والذين معه بدا من المصالحة بعد أن صالح أهل حي السهل وسمحان، واستسلم والده الإمام عبد الله بن سعود. واستخدمت قوات إبراهيم باشا مع أهل الدرعية عامة وأهل غصيبة خاصة، شتى أنواع الإرهاب النفسي والحربي، وتفننوا في استخدام أنواع القنابل التي لم ير أهل الدرعية مثلها آنذاك، وفات المصادر التي سجّلت وقائع تلك المعارك ذكرها، ومن ذلك ما رواه والدي عن جدي نقلاً عن المعمرين في الدرعية ممن أدركوا بعض المدافعين عن حصون الدرعية آنذاك قولهم: إنّ غصيبة كانت تملك مدفعين اثنين يرمي بها حسين المدافعي وإبراهيم مقصورة، فيما يملك الباشا عشرات المدافع التي استخدم لها ذخيرة عبارة عن قنابل مجوفة ومملوءة بالمسامير شديدة الصلابة، بحيث إنّ القنبلة ترتطم بجدار المنزل، وبعد أن ينهدم تنفجر القنبلة بفعل الحرارة فتتناثر منها تلك المسامير مخترقة رؤوس الناس، وسرعان ما انتبه الأهالي لتلك القنابل فكانوا يبادرون إلى سكب الماء عليها بمجرّد سقوطها حتى لا تنفجر، كما استخدمت القوات الغازية قذائف أخرى لها رسن تربط به سلاسل بطول نحو ذراعين، وتخرج السلسلة من فوهة المدفع وتربط بها كلاباً شرسة ومن ثم تطلق القذيفة فتطير بالكلب في الهواء وله نباح حتى يسقط بين الأهالي إمعاناً في إرعاب نسائهم وأطفالهم، ولا يزال لديّ قطع من بعض قذائف المدفعية المجوفة تحصّلت عليها من مواقع المعارك في الدرعية. وصف لبقايا حي غصيبة يقبع حي غصيبة على سفح الهضبة الواقعة عند زاوية التقاء شعب قليقل بوادي حنيفة، أي أنّ الحي له ثلاثة أسوار فقط ويأخذ الشكل المثلث، وجهته الجنوبية هي زاوية التقاء الرافد بالوادي، ويبلغ طول السور الشمالي 211 متراً وطول السور الغربي المشرف على وادي حنيفة 308 أمتار، فيما يبلغ طول السور الشرقي 308 أمتار أيضا. وتتوسّط السور الشمالي بوابة ضخمة يبدو أنّها كانت المدخل الوحيد أو الرئيس، ويمتد منها طريق مستقيم باتجاه الجنوب يقسم البلدة إلى قسمين، وعند منتصف الطريق من الناحية اليمنى يأتي قصر الإمام سعود بن عبد العزيز الذي لم يبق منه سوى شراذم وبعض الأساسات ما عدا برجاً عالياً في زاويته الشمالية الغربية بارتفاع نحو ثلاثة عشر متراً ما زال يقف بشموخ مستلهماً سيرة أصحابه - رحمهم الله - الذين وقفوا بشموخ في وجه قصف مدفعي مركّز استمر قرابة الستة أشهر ولم تلن لهم قناة. وتتناثر بقية البيوت يمنة ويسرة على جانبي الطريق ويصعب تمييزها نظراً لتهدمها التام واختلاط أنقاضها، وينتهي الطريق في الزاوية الجنوبية ببناية ما زالت هي الوحيدة في الحي التي تحتفظ بكامل جدرانها، ويبدو من شكلها الداخلي أنّها كانت مخزناً للحبوب والغلال فيما يمكن تسميته بيت المال، ويجاورها من الخارج بئر عجيبة قد نحتت في الصخر بعمق نحو خمسة عشر متراً، فيما يبلغ اتساع فوهتها نحو متر وعشرين سنتمتراً طولاً وثمانين سنتمتراً عرضاً، وقد نسجت حولها الكثير من الأساطير التي ليس هنا مجال ذكرها، ويبدو أنّ هذه البئر مع بيت المال تحقق اكتفاءً ذاتياً للحي، فيما لو تمّت محاصرته من الخارج، وفي منتصف السور الغربي بني المسجد الذي ما زال محرابه وأساسات جداره الغربي تشرف بوضوح على الوادي، وتبلغ أطوال المسجد 21 متراً من الجهتين الغربية والشرقية و33 متراً من الجهتين الشمالية والجنوبية، ويقع المسجد على مقربة من قصر الحاكم من الجهة الغربية كما هي عادة الأئمة من آل سعود الذين يجعلون المسجد قريباً من قصر الحكم، كما هو الحال في مسجد حي الطريف المقابل لقصر الحكم المسمّى (سلوى) ومسجد الإمام تركي بن عبد الله في الرياض المقابل لقصر الحكم، ومن مساحة المسجد الكبيرة يتبيّن ضخامة عدد السكان الذين يقطنون الحي من البالغين عدا النساء والأطفال، وما زالت بقايا أماكن الوضوء ترى في الجهة الشمالية الغربية من خارج المسجد وقد صهرجت أرضيتها بالآجر ويصرف ماؤها إلى الوادي. واقع الحي الآن واحتياجاته يعاني حي غصيبة من الإهمال التام والتجاهل من قِبل إدارة الآثار التي لا يبعد موقعها عن الحي كثيراً والحسنة الوحيدة التي قامت بها وضع سياج من الجهة الغربية أسفل الحي في بطن الوادي! وهذا السياج لا يمنع من يريد الدخول إلى الحي، ولا أدري لماذا وُضع بالصورة تلك ؟ وما عدا ذلك فليس للإدارة أية جهود تُذكر، بل إنّ الحي يتعرّض من حين لآخر لاعتداءات من قِبل أصحاب المزارع المجاورة دون خوف من رادع أو زاجر، ومن ذلك وضع سياج داخل الحي في جهته الشمالية الغربية وضمِّه إلى أملاك صاحب المزرعة الواقعة في تلك الجهة، وقد بلغت المساحة المقتطعة من الحي نحو خمس مساحته، كما غرس جزء من الحي بالنخيل في نفس الجهة المذكورة، وقد مر على هذا الاعتداء أكثر من عقدين من الزمن ولم يزل ذلك السياج والنخيل قائمة حتى الآن! كما أنّ جزءاً من أساسات مسجد الحي (الطوي) المشرفة على الوادي قد تعرّضت لاعتداء وتم اقتلاعها ودحرجتها أسفل الوادي منذ نحو عقد من الزمن وما زالت تئن في مكانها وتنتظر من يعيدها إلى موضعها وإدارة الآثار ما زالت تغط في سبات عميق، بل إنّ إدارة الآثار قد تجاهلت الاعتداء الذي تم على قصر البليدة الشهير الذي لا يبعد عن الحي كثيراً جهة الغرب حيث سوّته الجرافات بالأرض، وهو القصر الذي يُذكر أنّ الملك عبد العزيز - رحمه الله - قد بات فيه ذات ليلة، وهو من المواقع الأثرية المهمة التي يرجع تاريخها إلى الدولة السعودية الأولى، بل ربما قبل ذلك ! فقد ذُكر أنّ فحل الفحول الذي كان يزوره أبناء المنطقة للتبرُّك قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لا يبعد كثيراً عن ذلك القصر. ولا شك أنّ حي غصيبة يحتاج إلى ترميم ما بقي منه وإعادة تأهيله للزوار، وكتابة تاريخه وحفظه فهو - في نظري - أولى من حي الطريف كونه هو النواة الأولى للدرعية وتاريخه سابق للدولة السعودية الأولى ومؤسس لها، كما أنّ الحي يحتاج من قسم الآثار والمتاحف في جامعة الملك سعود إلى القيام بحفريات تحت أنقاضه التي يرقد تحتها عدد من الأواني والأدوات والأسلحة التي كان سكان الحي يستخدمونها آنذاك، وأذكر أنني في طفولتي، وقد كانت مزرعتنا (المطيوية ) تجاور الحي من جهة الشرق، كنت ألعب أنا وأترابي بين جنبات الحي وأنقاضه، وحينما كنا نحفر تحت بعض الأنقاض وجدنا صينية زرقاء تلمع تحت التراب بعمق نحو نصف متر، وهذا يعني أنّ الحي يخفي الكثير من الآثار التي تحتاج إلى التنقيب عنها وعرضها في المتاحف، وختاماً فإنني أدعو أمير المؤرخين الأمير سلمان بن عبد العزيز وكما عوّدنا دائماً في اهتمامه بتاريخ وآثار الدرعية خاصة والوطن عامة إلى الإيعاز إلى المسئولين كي يتحملوا واجباتهم نحو ذلك الحي المسكين وينقذوه من براثن الإهمال.