لم يكن العلم الشرعي في بواكيره الأولى إلا صيغة كلية لمفهومات الوحي سواء كان إلهياً أو نبوياً، ولم يظهر التمايز الجزئي في العلوم إلا في القرن الثاني الهجري تقريباً، حيث بدأت بواكير العمل الحديثي في الظهور التي تدور في مجملها على فرز علمي ممنهج للمرويات المتداولة في الوسط العلمي والاجتماعي بغية الوصول إلى النص النبوي، مستبعدة الإضافات التي طرأت على النص الأصلي. هذا الفرز العلمي توالد حتى نشأ ما يعرف بعلم الحديث بمعناه الشمولي في القرن الثالث وأواخر القرن الثاني تقريباً، ثم تتابعت مكملات هذا المنهج فيما بعد. وهذه المنهجية الحديثية تعتبر من أفضل ما أنتجته الحضارة الإسلامية، والآلات المنهجية المستخدمة تعتبر من أدق المعايير في التحرير والضبط، بل حتى المناهج الحديثة تتقاصر عن تقديم نتائج أدق وأضبط مما تقدمه المنهجية الحديثية. والمناهج البحثية المستخدمة في العلوم الشرعية عديدة، يتمايز بعضها عن بعض، وبعضها يتداخل فيما بينها، وبعضها يكمل الآخر، ولعلي أركز على منهجين اثنين من هذه المناهج، وهما المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي، وهذان المنهجان وإن كانا يكمّل أحدهما الآخر، إلا أنه يمكن الفصل بينهما من حيث الآلية التي تقدم النتائج، حيث إن الأول يوسع المفهوم ويطرق مجالات عديدة لا يستطيع المنهج الثاني الوصول إليها، إضافة إلى أن المنهج الأول يمهد لأفق أوسع في الدلالة والاستدلال أكثر من الثاني، وقد قال تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} وقد جاء الاستقراء مقدماً على الاستنباط لاعتباره منهجاً مقدماً من حيث المنهجية الاستدلالية على الاستنباط. والآلية الحديثية اعتمدت على خليط من المناهج تبلورت فيما بعد بما يشكل علوم السنة، ولعل ما يلفت الانتباه المنهج الاستقرائي الذي مارسه المحدثون سواء على مستوى الرواة كشفاً عن حالهم وملابسات ظروفهم، بغية الوصول إلى نتيجة تحقق العدالة من عدمها، أو على مستوى الروايات في الكشف عن نقاط الضعف التي تسقط المتن، وهذا المنهج الاستقرائي لعب دوراً مهماً في الكشف عن بؤر الضعف في السلاسل الإسنادية أو حتى في المتون المروية؛ ولذلك قدم أدق النتائج في تقديم المتن النبوي. وعلى جانب آخر عمل المنهج الاستقرائي على الروايات فجاءت نتائج المحدثين في الأحكام الشرعية أدق من نتائج بعض الفقهاء الذين غلب عليهم المنهج الاستنباطي على حساب المنهج الاستقرائي؛ ولذلك لم ينضبط الكلام في علل الحديث إلا ممن كان المنهج الاستقرائي يمثل حضوراً بارزاً في منهجيته العلمية. هذا المنهج الاستقرائي الذي دشّنه المحدثون والذي لم يمارس قبلهم بهذه الدقة لم يكن له امتداد مُرضٍ - ولو بصور مختلفة - على بقية العلوم الشرعية، صحيح أنه في الفقه كان هناك شيء من الاستقراء كاستقراء الحالات المتعددة التي يمكن تنزيل نص يجمعها في منظومة واحدة، لكن هذا الاستقراء في عمل الفقهاء لم يكن بالدقة التي مارسها المحدثون؛ ولذلك نرى حكايات الإجماع على سبيل المثال تمثل ضعفاً في القصور الاستقرائي على المستوى الفقهي، أما في مجال العقائد فالأمر فيه أوضح بكثير، فالسجالات الكلامية ضيّعت كثيراً من معالم هذا العلم الشريف فضلاً عن المنهجية الاستقرائية فيه. من جهة أخرى لم يتمدد المنهج الاستقرائي الذي قدمه المحدثون على بقية العلوم الحياتية الأخرى، ولم يصبغ الذهنية آنذاك صبغة استقرائية تتلون وفقاً للاهتمامات المختلفة لتشمل كل ما هو متاح من علوم الدين أو من علوم الدنيا، وعلى سبيل الاستشهاد انزوت العلوم الطبيعية القائمة على الاستقراء في هامش الحضارة الإسلامية، بينما كانت العلوم الاستنباطية حاضرة في المتن، فالتكثيف لحضور المنهج الاستنباطي الكشفي كان على حساب تغييب المنهج الاستقرائي. والملاحظ أن المنهج الاستقرائي الذي أبدع فيه المحدثون وجد له امتداد وتطور في الفلسفة ومناهج البحث في الحضارة الأوروبية سواء على مستوى العلوم الطبيعية - وعلى الأخص المنهج الاستقرائي الناقص - أو على مستوى الدراسات الدينية الكتابية. ولفاعلية هذا المنهج اصطبغت الدراسات النقدية الموجهة ضد القرآن الكريم بالصبغة الاستقرائية. أما على مستوى العلوم الإسلامية والذهنية العربية بشكل أخص فبقي الحضور للمنهج الاستنباطي بينما بقي الاستقراء في دائرة المهمّش.