تحتفظ ذاكرتي بالقصيدتين اللتين أود الحديث عنهما في هذا المقام في مكانين متقاربين، إذ إن ورود إحداهما على سمعي أو في ذاكرتي لا بد أن يستدعي حضور الأخرى، ويعود السبب في ذلك إلى وجود نقاط التقاء عديدة بين هاتين القصيدتين، وبين مبدعيهما أيضاً، أما ما يجمع بين مبدعي هاتين القصيدتين فهو (الغياب)، ولا يكاد المطلع على ساحة الشعر الشعبي يعرف أو يجد للشاعرين محمد بن معيوض الحارثي وعايض بن محمد العتيبي سوى هاتين القصيدتين الرائعتين، وأعني بهما قصيدة الحارثي التي يقول في أحد أبياتها: جاني ولدها يبتسم بين الأطفال ومن بسمته ذكرت أنا بسمة أمه وقصيدة العتيبي التي يقول في أحد أبياتها أيضاً: قالت واشافيها تفرّق عن اللول توّك صغير ولا بعد صرت رجّال أما بالنسبة لنقاط الالتقاء التي تجمع بين هاتين القصيدتين فهي عديدة، أبرزها أن كلا منهما قد ولدت بعد قصة حب فاشلة، أو خيبة من خيبات العشق، وإن كانت قصيدة الشاعر محمد الحارثي لا تحكي إلا عن أحداث المرحلة التي تلت هذه الخيبة بمدة زمنية طويلة، حيث يقول في مطلع قصيدته: غابت ثمان سنين حلٍ وترحال غابت ثمانٍ كلها مدلهمه سألت عنها سنين وشهور وليال ولا فيه فجٍ غير وجهت يمّه ولا يُخبرنا الشاعر في هذه القصيدة عن سبب هذا الغياب من قبل تلك المحبوبة، ولا عن طبيعة العلاقة التي كانت تربطه بها، على العكس من قصيدة العتيبي، الذي يوضح لنا فيها مراحل الخيبة التي تعرض لها بصورة أكثر وضوحاً، إذ يبين لنا في بداية قصيدته بأنه قد عشق وهو في الثالثة عشرة من عمره امرأة تكبره بعشر سنوات، حيث يقول: ابن المطوع مات مع درب مجمول عطشان في راس ابرقٍ نايفٍ عال هذي سواتي ما بعد عاشها زول ولا قد سمعت الها مع أهل الهوى أمثال عايشتها عمري ثلاثة عشر حول أو هو يقل عن الثلاثة عشر حال الفرق عشرٍ فيهن أرياف ومحول فارق هوانا فرق راحل ونزّال وتبين لنا الأبيات التالية لهذه الأبيات القرار الجريء الذي اتخذه العتيبي، وهو مواجهة هذه المحبوبة التي يزيد عمرها على عمره بعشر سنوات والتعبير عن حبه لها: ونويت أكسر حاجز الصمت وأقول إما طمع والا مناكيف واجزال واجهتها خايف وسايف ومذهول وأخبرتها فالحال عن خافي الحال واجهتها من راس ما ارسلت مرسول وردت بعلم ما خطر لي على البال وكان الجواب الصادم، والجواب الذي لم يخطر على بال الشاعر هو (الرفض): قالت واشافيها تفرق عن اللول توك صغير ولا بعد صرت رجّال اليا اشتد عودك وأصبح الزند مفتول ومشيت ما بين المناعير تختال يمديك تلقى من يسليك بدلول ويحط لك فأقصى حناياه منزال ويصور الشاعر في الأبيات التالية حالة الخيبة التي أصيب بها تصويراً نفسياً بديعاً، مبيناً مدى خذلانه ويأسه بعد هذا الجواب الصادم الذي تلقاه من تلك المحبوبة: وأقفت يلحفها من الليل مجدول ما غطته عن ناظر الطفل بجلال أقفت وأنا في ماقف الياس مخذول مفلس افلاس مضيع الجاه والمال تفتر بي دنياي في حيل مشلول في ما قفي ما طاعت الرجل تنزال وأصبحت في جرحي في خفاياي مشيول نوبٍ يهيض ونوب يلتف بسمال لا طاب من ما به ولا مات مقتول وأبطى وتأثيره على القلب ما زال فكما نلاحظ في هذه القصيدة فالحدث ينمو نمواً تدريجياً إلى أن يصل إلى نقطة الذروة، خلافاً لقصيدة الحارثي، التي تظل فيها الفترة الزمنية التي تسبق الخيبة فترة مجهولة وغامضة بالنسبة لمتلقي القصيدة، ويقتصر اهتمام الشاعر على المرحلة اللاحقة لتلك الخيبة، يقول الحارثي في الأبيات التي تلي المطلع: وعقب الثمان اللي تعبها برى الحال جاب الزمان الكارثة والمطمه جاني ولدها يبتسم بين الأطفال ومن بسمته ذكرت أنا بسمة أمه شفته وصاحت داخلي كل الآمال بصوتٍ عجزت بكتم الأنفاس ألمه ولحظة حضنته والطفل في يدي مال شميت ريحتها على أطراف كمّه فخلافاً لقصيدة العتيبي نجد أن المحبوبة في هذه القصيدة تغيب غياباً شبه كلي، ويحضر نيابة عنها صغيرها أو طفلها الذي اختزنت ذاكرة الشاعر المحبوب صورة ابتسامة أمه، واختزنت كذلك رائحتها، مما جعله يستحضر صورتها الجميلة في ذهنه من خلال رؤيته لطفلها الصغير، فكما نلاحظ فهناك حضور للطفولة في كلتا القصيدتين، وتتمثل هذه الطفولة في المحبوب (الطفل) في قصيدة العتيبي، وصورة المحبوبة الغائبة (طفلها) في قصيدة الحارثي. ومن نقاط الالتقاء التي تجمع بين هاتين القصيدتين أيضاً، الموقف الذي يتخذه كلا الشاعرين في نهاية قصيدتيهما، فقد أعلن الحارثي في ختام قصيدته أنه سيعود إلى (الغربة) والاعتزال تعبيراً عن حزنه وحسرته وكآبته بسبب هذه الخيبة، حيث يقول: مجبور أعوّد واشتكي لكل الأميال بنفس حزينة كائبة مستهمه برجع غريب مسكنه بر ورمال يموت.. يحيا.. يندفن ما يهمه ويختتم العتيبي قصيدته بالدموع أيضاً، وباخبارنا بقرار العزلة عن الناس، وهو القرار الذي اتخذه جراء خيبة الحب التي أذاقته إياها تلك المحبوبة التي صدمته بجوابها الرافض: هذا جواب اللي عن الناس معزول عزل الجبال الصم عن جرد الاسهال وأتلى الجواب من المساهير هملول تهدا لهاك الزول من بد الأزوال الملاحظة الأخيرة التي أود أن أشير إليها فيما يتعلق بهاتين القصيدتين هي وجود أكثر من رواية لهما، لا سيما قصيدة الحارثي، حيث يلحظ المطلع وجود روايات متعددة لها، وتتفاوت تلك الروايات في عدد أبياتها، وفي اختلاف وتغير بعض الألفاظ من رواية إلى أخرى، لذا أعتذر من الشاعرين المبدعين، ومن القارئ الكريم إذا كان هناك اختلاف بين الصيغة الأصلية لهاتين القصيدتين، وبين صيغة الرواية التي اعتمدت عليها هنا. ختاماً أقول إن كل عاشق للإبداع الشعري لا بد أن يشعر بالخيبة لغياب شاعرين كبيرين ومبدعين كعايض العتيبي ومحمد الحارثي عن ساحة الشعر الشعبي، فعلى الرغم من الشهرة الواسعة لهاتين القصيدتين، إلا أننا نجد أن الكثير من جمهور الشعر لا يعرف هذين الاسمين الجميلين اللذين نأمل أن نقرأ لهما في قادم الأيام المزيد من الإبداعات الشعرية.