مِنْ نِعَمِ اللهِ على بلادنا الغالية أنْ منَّ عليها بالحرمين الشريفين - حرسهما الله - إذ هما مأوى أفئدة المسلمين، يفدون إليهما من مشارق الأرض ومغاربها محبةً ورغبةً. تكفل الله بحمايتهما وعمارتهما، لذا تسابق أهل السيادة والرياسة إلى خدمة الحرمين الشريفين، ورعاية الدولة السعودية لهما عنوان على ذلك. زرعَ اللهُ حبَّهما في النفوس، وأعظمَ مكانتَهما في القلوب، مَنْ حدثته نفسه للنيل منهما أذابه الله ورد كيده إلى نحره، وقصةُ أصحاب الفيل أكبر شاهد ودليل. قال تعالى: { مَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }. وقال ابن مسعود في هذه الآية: (لو أن رجلاً همَّ فيه بإلحاد وهو بِعَدَن أَبْينَ لأذاقه الله تعالى عذاباً أليماً) رواه الحاكم. وقال صلى الله عليه وسلم عن المدينة: (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الصاحي أو ذوب الملح في الماء) رواه مسلم. إن مكةوالمدينة من أحب البقاع إلى الله فنحن متعبدون بحبهما ومجزيون بمضاعفة الثواب لمن صلى بحرميهما. لذا فإنَّ مناسبة الإجازة الصيفية تحرك كثيراً من الأفواج في الترحال إلى الأماكن المقدسة في بلادنا الغالية فيهيمون شرباً لماء زمزم راجين فضله مستشفيين بشربه؛ فأقول: إنَّ ماء زمزم آيةٌ من آيات الله، لما اشتمل عليه من خوارق العادات وعظيم البركات، إنَّ عَيْنَ زمزم جرت منذ آلاف السنين بين الصخور تحيط بها الجبال الصم الشامخات، في بقعة لا تعرف زرعاً ولا كلأً{ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }. إنَّ التفكر والتدبر بهذه العين الزمزمية يزيدانِ المؤمن إيماناً، ماؤها مليء بالعناصر والتركيبات التي أَعيَتْ أهل التجارب والمختبرات، إنَّ ماءَها لا يزيد ولا ينقص مع اختلاف الزمان وقلة الأمطار، إنها ذات ميزان إلهي لا يغيرها أو يشوبها تلوثٌ وتعفنٌ. أهل العلم الحديث سخَّروا أجهزتهم لاكتشاف حقيقتها وتركيبها فرأوا العجب العجاب: عناصرها لا تتبدل ولا تتغير، وكمية المياه لا تزيد ولا تنقص، فسبحان مَنْ دبَّر وصَرَّفَ!!. وهناك جانب مهم في ماء زمزم، إنه جانب يغفل عنه كثير من الشاربين ألا وهو الجانب الإيماني عند شربه بالإضافة إلى الهدف المنشود من شربه وهذا يتضح من نية الشارب له، إنه مقصد شريف يسمو بروح الشارب إلى مصاف العارفين بربهم فيتحقق له مقصده ومطلبه غاية التحقق. قال ابن القيم: (ماءُ زمزم سَيِّدُ المياه وأشرفُها وأجلُّها وأحبُّها إلى النفوس، وأعلاها ثمناً وأنفسُها عند الناس، وهو هزمة جبريل وسقيا الله لإسماعيل)(1). وماءُ زمزم علامة فارقة بين المؤمن والمنافق، فالمؤمن يتضلع منه حتى يمتلئ بطنه والمنافق بخلاف ذلك؛ إنَّ شربه عبادة يتقرب بها المرءُ إلى ربه فهي محبوبة للنفوس المؤمنة. مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم) رواه ابن ماجة وَحَسَّنَهُ ابنُ حَجَر. بل حتى القيام على السقاية منها عبادة لله سبحانه لذا سقى منها الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل السقاية في عمه العباس بن عبدالمطلب تشريفاً له وتكريماً، فخدمة الحجيج والقيام على البيت العتيق شرف لأهل مكة وسادتها. إن من خصائص هذا الماء الاستشفاء به فَبِشُرْبِهِ يبرأُ المريضُ ويتعافى المُبتلَى، ففي الحديث الحسن الذي رواه الطبراني: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام طُعم وشفاء السُّقُم)، وقال ابن أبي نجيح: (ماء زمزم شفاء لما شُرِبَ له) رواه ابن أبي شيبة. فكم من مريض تداوى به فكشف الله عنه داءه، ورفع الله به أوباءَه!، إنه علاج لجميع الأمراض، طهر الله به قلب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم حين شق الله صدره فغسلته الملائكة من الأدران والآثام. تداوى به مرضى السرطان والوباء الكبدي وغيرهم من المرضى فشفوا من ذلك كله، فسبحان مَنْ ركبه ليصلح لكل داء، إنها حقائق كثيرة يشهد لها الواقع!. فهذا ابن القيم - رحمه الله - يقول: (وقد جربتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبةً، واستشفيتُ به من عدة أمراض فبرأتُ بإذن الله)(2). وقال أيضاً: (ولقد أصابني أيام مقامي بمكة أسقامٌ مختلفةٌ ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن فكنت أَستشفي بالعسل وماء زمزم ورأيتُ فيهما من الشفاء أمراً عجيباً)(3). وقال الإمام القزويني المُتوفَى سنة (982) ه: (وماءُ زمزم صالح لجميع الأمراض المتفاوتة، قالوا لو جمع جميع مَنْ داواه الأطباء لا يكون شطراً ممن عافاه الله تعالى بشرب ماء زمزم). وعن عبدالله بن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: (رأيت أبي يشرب من ماء زمزم يستشفي به ويمسح به يديه ووجهه)(4). وفي زماننا هذا كثيراً ما نقرأ ونسمع مَنْ تداوى بماء زمزم فبرئ، فما جاءت توبة بعض كبار المغنين والمغنيات إلا بعد أن شفاهم الله من أمراضهم المستعصية بالتداوي بماء زمزم شرباً له وغسلاً به. وهناك مَنْ تداوى به من سلس البول وغير ذلك كثير، فما من داء إلا وأنزل الله له دواء، وماءُ زمزم سيد الأدوية وما زال الناس يتداوون به ويستشفون بشربه فيجدون الصحة والعافية والقوة والمنعة. غير أن هذا المطلب يحتاج إلى التوكل على الله والتصديق بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حق لا مراء فيه، أما شربه تجربة وعادة لا يفيد صاحبه، فهذه الخاصية مقرونة بالنية وغاية التسليم لأمره سبحانه وتعالى. قال سفيان الثوري: (إنما كانت الرُقى والدعاء بالنية لأن النية تبلغ بالعبد عناصر الأشياء والنيات على قدر طهارة القلوب وسعيها إلى ربها وعلى قدر العقل والمعرفة يقدر القلب على الطيران إلى الله، فالشارب لزمزم على ذلك)(5). واعلمْ أنَّ تركَ كثيرٌ من الناس الاستشفاء بماء زمزم لا يخرجه عن كونه شفاءً بل لا يزيد الطبائع الرديئة إلا رداءةً { وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }. (6) ومن خاصية ماء زمزم أنَّه طعام لمن طلب فيه الشبع فيدفع الله به الجوع والعطش، ففي الحديث: (زمزم طعام طُعم وشفاء سُقم). فَمْنَ شربه يريد الشبع أشبعه الله، ومَنْ شرب ليرتوي أرواه الله، إذاً هو قرين النية. لذا كانت تسمى شبّاعة قال ابن عباس رضي الله عنه: (كنا نسميها شبّاعة يعني زمزم، وكنا نجدها نعم العون على العيال)(7). بل إن أبا ذر رضي الله عنه أقام عند الكعبة ثلاثين يوماً ليس له طعام إلا ماء زمزم حتى سَمِنَ وتثنت لحم بطنه من السمن، رواه مسلم. قال ابن القيم رحمه الله: (وشاهدتُ مَنْ يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثره ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع فيها أهله، ويصوم ويطوف مراراً)(8). فتدبرْ الحِكَمَ الإلهية والمقاصد الربانية واجعلها قرينك عند شُرْبِ ماء زمزم. فمن نوى شيئاً عند شربه تحقق له مراده، وكنْ بمنأى عن الاعتداء بالدعاء، واعلمْ أنَّ مِنْ عادة سلفنا الصالح ذِكْرُ الحاجات وتمني بعض الغايات العالية عند شرب ماء زمزم، وسِيَرُهُم تحكي ذلك. ودافعهم قوله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شُرب له) رواه أحمد وهو حديث حسن. جاء عن الخطيب البغدادي أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث مرات وسأل الله ثلاث حاجات شريفة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد بها، والثانية أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة أنْ يُدْفَنَ عند قبر بشر الحافي، فقضى الله له ذلك. وثبت عن الحاكم أبو عبدالله النيسابوري أنه شرب ماء زمزم ونوى به أنْ يُوَفَّقَ لِحُسْنِ التصنيف وغيره، فكان أحسن أهل عصره تصنيفاً، حيث أَلَّفَ كتاب المستدرك في الحديث وِفَقَ ترتيبٍ لم يُسبق إليه. وهذا الإمام ابن خزيمة عالم الأمة سألَ اللهَ أن يرزقه علماً نافعاً عند شربه ماء زمزم فكان ما كان. وقال الحافظ بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري: شربتُ ماء زمزم وسألتُ اللهَ وأنا في بداية طلب الحديث أن يرزقني اللهَ حالة الذهبي في حفظ الحديث، فأصبح ابن حجر آيةً في رواية الحديث ودرايته. وقال الإمام الشافعي: شربتُ ماء زمزم لثلاث: شربته للعلم، وشربته للرمي فكنت أُصيب العشرة من العشرة والتسعة من التسعة، وشربتُه للجنة وأرجوها(9)، فانظرْ إلى علم الشافعي بلغ الآفاق وتلقته الأمة في مختلف الأمصار. فلا تكنْ بمنأى عن المِنَحِ الإلهية عند شربك ماء زمزم، فاسألْ رَبَّكَ حاجاتِك وأمانيك، فإنَّ رَبَّكَ جوادٌ كريمٌ يعطي العبد سؤاله ما لم يعتدِ بالدعاء. فلا حرج عليك أن تدعو بأمورك الدنيوية عند شربه كَمَنْ يسألَ اللهَ أن ينجحه بالامتحان أو ينوي بشربه أن يرزقه الله زوجةً صالحةً أو ولداً صالحاً يعينه على نوائب الدنيا أو يرزقه وظيفةً أو سيارةً فارهةً أو نحوها من الحاجيات الحياتية. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شُرِبَ له إن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله)؛ ومن دعاء ابن عباس عند شرب ماء زمزم (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء) رواه الحاكم، فتدبرْ دعاء ابن عباس إذ إنه اشتمل على خيري الدنيا والآخرة. وتدبر أيضاً هذه المكرمات وخوارق العادات!!! من الذي أودعها في هذا الماء وميَّزه عن غيره؟ ولا تغتر بأولئك النفر المتنقصين لماء زمزم والمثيرين حوله الشُّبه، فإنَّه آية من آيات الله في أرضه يجب الإيمان بحقائقها وأخبارها الإلهية والبعد عن الخوض بمدى أثرها وحقيقة أمرها، فإنَّ الأمور الغيبية تُوكل إلى الله، فالعقلُ قاصرٌ عن الإحاطة بها. إنَّ ماء زمزم لا يُقارن بالمياه الأخرى مهما كانت مزاياها، لأن زمزم لها خصائص عُرِفَ بعضُها وغاب عنكَ كثيرٌ منها، فسبحان مَنْ شملها ببركته وتوفيقه فجعلها مِنْهَلاً عذباً لأهل الإيمان يغدون إليها ويروحون!!!... واعلمْ أنه مهما بلغت مياه الأرض من صفاوةٍ ونقاوةٍ، فلنْ تبلغَ درجةَ المياه الزمزمية، ومهما تغنَّى البعضُ بمياه بيرين الفرنسية، ومياه لبنان الصحية وغيرها من المياه، فلن تبلغ مِعشار ما أودعه الله في مياه زمزم المكية، فسبحان مَنْ ميَّزها وخصَّها بحسن تدبيره وفضَّلها على كثيرٍ ممن خلق تفضيلا. (1) زاد المعاد (4 - 392). (2) زاد المعاد (4 - 393). (3) مفتاح دار السعادة ( 2 - 171). (4) فضائل ماء زمزم (114). (5) فيض القدير (10 - 5268). (6) مفتاح دار السعادة ( 2 - 170). (7) الترغيب والترهيب (2 - 210). (8) زاد المعاد ( 4 - 393). (9) الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف (ص266).