حياة الإنسان تبدأ وتنتهي بمسارين مؤثرين كلاهما موجودان، وكلاهما يحدثان تغيراً، أحدهما بصورة مشاهدة محسوسة، والآخر غير محسوس به لذلك نجد أن المحسوس هو الظاهر. ولتوضيح هذين المسارين أكثر نصنفهما إلى: الأول الظاهر المحسوس هو مسار النمو، والآخر هو المسار الخفي الذي ينقل الإنسان من مرحلة إلى أخرى ويسمى اصطلاحاً (التقاعد). لنتتبع المسارين ونرى كيف تمر حياتنا بمراحل بين نمو وتقاعد وتغيرات وإضافات وبالتالي خبرات معرفية حياتية لا يستغنى عنها، فكلا المسارين كما ذكرنا يحدثان تغيرات في حياتنا نرفضها في البداية ولكن سرعان ما نتأقلم مع المرحلة الجديدة إلى درجة إننا نتباهى بمعرفتنا بجوانب النقص في المرحلة السابقة التي تقاعدنا عنها. فعندما يكتمل نمو الجنين في بطن أمه ينهل من دمها الغذاء مشاركاً لها إلى أن يصل إلى مرحلة لابد فيها أن يغادر هذا المكان (يتقاعد) وإلا أصبح المزيد من بقائه خطراً عليه وعلى أمه، وأي أمر يخالف هذا الانتقال يعد مخالفة للفطرة، والملفت أنه يبدأ المرحلة الجديدة بصرخة لا نعلم هل هي تعبير عن الخوف من الوضع الجديد أو عكس ذلك، ليبدأ مرحلة الرضاعة وهي فترة تنتهي بالفطام (يتقاعد) منتقلاً إلى مرحلة أكثر تعقيداً ورقياً، حيث يبدأ في خطواته الأولى زحفاً ثم مشياً متناولاً أنواعاً متعددة من الغذاء ليشتد عوده وتبدأ السعة العقلية في اكتساب المعارف ليدخل المدرسة مبتدأ يومه الأول بالبكاء رافضاً الانخراط الذي يمثل (تقاعداً) عما سبق من المراحل والمهارات. هكذا تتواصل المحطات الحياتية كل محطة يتقاعد عنها ينتقل إلى المحطة التي تليها والتي غالباً ما يستصعبها حيث يألف الأولى ويجهل الثانية ولكن المضطر يجد نفسه سرعان ما يتكيف مع المحطة الجديدة لدرجة أنه يشعر بنقص المرحلة السابقة التي تقاعد عنها. والسؤال هل يعلم ويحس الإنسان بأنه يمر في المسارين السابقين؟ إن الإنسان غالباً ما يتوقف عند مرحلة معينة أكاديمية أو دونها (يتقاعد) لينطلق من خلالها إلى المرحلة العملية التي يكون فيها من أشد عنفوانه وقوته وكبده لحياته قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}(15) سورة الأحقاف. هذه مرحلة من العمر تبقى ذكرياتها لدى كل شخص ففيها يشعر بذاته ولكن الفطرة والسنة التي أوجد الله في خلقه تحتم علينا الانتقال منها مكملين مراحل حياتنا. وقبل أن ننتقل إلى المرحلة المقبلة (التقاعد القادم) دعونا نعيد السؤال كم تقاعد مر بنا حتى الآن، ولم نشعر به؟.. المسار الخفي الذي يجهله غالبية الناس أو يتجاهلونه يبدأ بالظهور على السطح والتفكير من خلال انتقال الإنسان (الموظف) إلى مرحلة جديدة وهي تقاعده عن الجانب العملي الوظيفي، هذه المرحلة التي تحظى بنصيب وافر من معرفة الناس صغاراً وكباراً من حيث توقيتها وتوقعها وبالتالي تنال الكثير من الحديث والمقاومة، لأن هذه المرحلة مرتبطة بالشعور بالقوة والحيوية والإنتاجية وما سواها فلا! يا له من مسار مخيف نعتقد أنه ظهر فجأة، وكأنه كان يجمع قوته إلى أن وجد الفرصة بهذه المرحلة الأمر الذي جعل هذه النقلة وكأنها الصدمة التي أخلت بتوازننا وجعلتنا لا نفكر بالمراحل التي تليها، لذا نجد أننا نقلل القدرة على تناول كل ما نشتهي، ويقل التنقل بكل حيوية ورشاقة من مكان إلى آخر مثل ما كان. ولو أننا أدركنا هذه الحقيقة (أن مسار التقاعد مصاحب لنا في مراحل حياتنا) بإمعان وتدبر لاستطعنا أن ننتقل ونمر بمراحل حياتنا بكل هدوء، ولصار مصطلح (التقاعد) في مجمله خيراً كبيراً، نعدّل من خلاله تصورنا عنه ونقطع خيوط الوهم ونرى حقيقة الأمر ونعلم أننا قدمنا وبذلنا وأفدنا وأجدنا، فعندما نتقاعد نرتقي إلى مقام أعلى وأشمل لنسعد بما أنجزنا. إذاً فهي حياة مليئة بالمتغيرات التي تبدأ وتنهي حسب مراحل أوجدها الله نتفاعل معها بما يتوافق مع مرحلتها الزمنية العمرية التي استهلكتها.. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}(54)سورة الروم. إنها حكمة الخالق.