دعوني أبدأ بمقدمة اجتماعية أؤكد فيها على أن الشخصيات المؤثرة في الحياة يجب أن تحظى بالتقدير الذي تستحقه في حياتها وبعد مماتها. وهذا الاهتمام يعني ويعكس أن هناك حساً حضارياً لدى المجتمع الذي يقوم بذلك، وحينما لا يقدر الناس أو المجتمع قادته ورواد نهضته إنما يعكس جموداً في فكر ذلك المجتمع ونوعاً من التخلف الذي لا يقيّم بل ولا يحسن أن يقيم ما يستحقه أولئك الزعماء والرواد. وهنا فسير الرجال والنساء العظماء في الحياة هي التي تمدّ المجتمعات بميكانزمات وعوامل حياته واستمراره، ذلك أنهم أصحاب مبادرات ومشاريع وأفكار وأعمال وأخلاق عملية يشاهدها من يعيش وعاش معهم، وبالتالي فهم قدوات لأجيال مجتمعاتهم. وأخلص من هذا التقديم بأن خدمة هؤلاء بأي شكل يحفظ رمزيتهم في الحياة هي حق لهم بعد الممات وهو نوع من الحسّ الاجتماعي المرهف الذي نحتاج إلى تفعيله في حياتنا. ودعوني أذكر لكم أنه: إبان دراستي في الغرب رأيت أن هناك اهتماماً كبيراً برواد العلم والاجتماع، فالمواد الدراسية التي درسناها في عدد من الأقسام نجد أنها تستشهد بأقوال وأفعال أشخاص وهذه الاستشهادات تجد أنها تنتقل من مادة وأخرى، فالكل يستفيد من أقوال الرواد فيما يخدم هدف التخّصص الذي يدرسه. وتلك لفتة هي بحق أعجبتني عن كيفية خدمة ذلك المجتمع واحتفائه بعلمائه وقادته، وحينما تنظر إلى مجتمعاتنا تجد أن هناك ضعفاً أو غياباً في ذلك، والداء الأخطر هو محاولة إسقاط لا استشهاد بعضنا للبعض. وهذا العراك هو نوع من صراع التخلف الذي يوقف عجلة التنمية بشتى أبعادها واستمراريتها. وهذه الهموم الاجتماعية والثقافية تحتاج إلى وقفات ومتابعات أتركها لمناسبتها، لأتحدث عن آخر أبرز القيادات النسائية التي تستحق الذكر حيث كان لها أثر كبير على شاشة الواقع لا التلفاز، وعلى محيط الأسرة والمجتمع الذي عاشت فيه. وتلك هي بنت جدي ووالدة أسرة السعيد وخالتي (نورة بنت محمد العبد الرحمن الشريدة) (المدرسة) أيام كانت شابة وزوجة ورمزاً يوم أن تقدم بها العمر إلى ما يقارب القرن، عاشت مراحل حياتية يمكن أن نلخصها بمرحلة غنى ثم فقر ورعاية أيتام ثم مرحلة غنى وسعادة بفضل الله، وذلك كله لم يأت من فراغ وإنما من كدِّ وكدح وإصرار، وليس من رجل بل من أنثى تزيد بعقلها وروحها وإصرارها كثيراً من الرجال، وإليك شيئاً من سيرتها الحافلة والعطرة التي لا يمكن أن نحصيها بصفحة في صحيفة، لكنني سأحاول أن أطرح بعض الدروس من سيرتها: أولاً: إن حسن التربية والرعاية ينعكس حتماً على حسن البرّ والخاتمة، وهذا فعلاً ما عاشته (أم محمد) مع أبنائها البررة محمد عبد الله، وسليمان، ومعالي الدكتور عبد الرحمن، وأحمد، أولئك الأشخاص الذين فعلاً تشعر حينما تتحدث معهم بأنهم عقليات تسير على الأرض، ولكن السؤال: من وراء هذه العقليات في التربية والرعاية إبان شبابهم؟ إنها نورة بنت محمد الشريدة، التي أبت، رحمها الله، الزواج بعد وفات زوجها، رحمه الله، من أناس أصحاب جاه ومسؤولية، وآثرت التفرغ لتربية (الأيتام) ليكونوا كما أرادت، رحمها الله، منهم وكم من درس هنا حول التفاني من الأم في حظوظها الذاتية لتفرغ لتربية فلذات كبدها، فنعم المربية والمتربين. ثانياً: إن من الدروس التي أبدعتها مدرسة أم محمد (رحمها الله) أن الفقر والفاقة لا يمنعان من التطلع والمثابرة. فهي، رحمها الله، بعد وفاة زوجها (رحمه الله) وخسارة تجارته، لم تستسلم للإحباط أو للقلق أو لليأس. كما هو واقع عدد من الرجال فضلاً عن النساء حيث نجد عددا من الفقراء/ الفقيرات هكذا حاله طوال عمره دون سعي وحركة ونشاط، كما أمر الله، ولكن استسلام ل(الواقع والتخلف) وارتماء بين أحضانه. و(أم محمد) تؤكد أهمية الحراك الاجتماعي لطلب الرزق والبحث عن كل ما يفيدها ويفيد أبناءها الأيتام فكان الانتقال إلى الرياض حيث فرص العمل والتعليم. وهذا درس للكل، وخاصة الشباب أن لا يبقى رهين بيئة لا تدفعه للعمل والإنتاج وسعة الأفق. ثالثاً: يجب أن تعرف أيها القارئ الكريم أن (أم محمد)، رحمها الله، كانت (أميّة) ولكنها كانت بروفيسيرة في التعليم والتربية حيث أصرّت على تعليم أبنائها، ليس فقط بالداخل بل حتى في الخارج، وتصور معي متى كان هذا الأمر؟ إنه بين الخمسينات والستينات من القرن الماضي. عجيب، امرأة أميّة تبعث أبناءها للدراسة في الخارج، ألا يعكس هذا العقل ذهنية سبقت تاريخها وواقعها؟ إن الأمية الحقيقية ليست هي عدم القدرة على القراءة والكتابة، إن الأمية الحقيقية، في تقديري، هي عدم القدرة على (الفعل)، فكم من عاقل وعالم ومفكر لا يحسن كيف يفعل شيئاً، وكم من (أمّي) في اصطلاح العلم غيّر التاريخ، ويكفينا شاهداً خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم (النبي الأمي). فأين لنا بعقل كعقل (أم محمد) في زمن الأمية الفعلية؟ رابعاً: مجلس (أم محمد) كان لا يملّ أبداً، حيث تملؤه بكل محبوب في الكلام والسؤال والأحاديث الكثيرة والكبيرة والمتنوعة والمفيدة، دائماً ما تتحدث عن الأسرة وعن أحوالها كبيراً وصغيراً ذكراً وأنثى ومع كل كلمة تدعو (الله يوفقهم، الله يخليهم، الله يرزقهم) أدعية تمتزج دائماً بأحاديتها. والغريب أنها بعدما تقدمت في السن نأتي إليها لنقبل رأسها ويدها فتزيدنا من أخبار أسرتنا. ونحن شباب ونتحرك كثيراً ولكننا لا نملك من المعلومة والهمّ ما تملكه (أم محمد) حيث نعلم منها ونتعلم أشياء تحدث في الأسرة وليس لدينا عنها خبر (فلان ولد له، وفلانة رزقت بكذا، وهكذا) أخبار كثيرة وطازجة. هذا الدرس يعكس أهمية أن يكون لدى الإنسان اهتمام بشؤون أسرته، وذلك ما يعطي الإنسان المكانة، إنه بقدر اهتمامك بشؤون أسرتك يكون لك فيها مكانة، وهذا مبدأ اجتماعي وطبيعي، فكيف نطلب أو نطالب بالاحترام والاهتمام ونحن لا نؤدي حق ذلك؟ إنه كما يقال الحصول على (الحق) نتيجة طبيعية للقيام (بالواجب) وهو ما قامت به فعلاً (أم محمد) خير قيام، بل وتزيد ذلك حباً ومرحاً وكرماً وأنساً. يعبّر عنه كل من يسمع اسم (نورة بنت محمد) فقد كانت سيرتها محل عجب من جهة وإعجاب من القريب والنسيب، وذلك ما عبّر عنه المعزّون والناس شهداء الله في الأرض، ونعم الشهادة لك يا (أم الجميع) في مجلس العزاء. خامساً: يستحيل أن نخرج من مجلس (أم محمد) دون فائدة سواء بمثال اجتماعي تقوله، أو بحكمة تذكرها أو بدعاء تشملك به، والأغرب من ذلك أنها، رحمها الله، تتحدث عن شؤون المسلمين وتترحم عليهم وتدعو لهم، سواء في العراق أو في أصقاع الأرض المختلفة، إن همّ المسلمين فضلاً عن الأقربين دائماً موضع اهتمام منها، رحمها الله. ويزيدني دهشاً أنها وهي تقارب المائة عام لا تزال تعيش حال المسلمين وكأنها تقول للأمة وقادتها وأبنائها (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) إنها يا أماه دروس حتى للقادة من عظيمة وكبيرة (طريحة الفراش لسنوات). فكيف بمن يديرون شؤون البلاد والعباد؟ سادساً: يبدو أن عمق الهم الذي تعيشه هذه (الأم) قد أثر كثيراً وعميقاً في أبنائها، وفعلاً كان الأمر كذلك، فكلهم لهم أثرهم في مجتمعنا السعودي، ففيهم المثقف البارع، والإداري والاقتصادي التاجر المتطلع، ومنهم من تشرف بالعمل مع خادم الحرمين الشريفين مستشاراً له، أيده الله، ولا يزال كذلك يخدم هذا الوطن ويسعى لتنميته، وهو معالي الدكتور/ عبد الرحمن بن حمد السعيد. وهذا الواقع المشرف لأبنائها يزيده شرفاً عمق البر وعظيم الرعاية التي أولاها لها أبناؤها البررة جميعاً إبان حياتها، إذ كانوا مضرب مثل برّهم بهذه الأم القيادية. سابعاً: من عظيم الدروس التي نستفيدها من (أم محمد) رحمها الله، أنها، تغمدها الله برحمته، كانت عادلة أشد العدل مع أبنائها حتى في حالة مرضها وشدته، فقد كانت تعدل في جلوسها بينهم فلا تفضّل أحداً على أحد، فكلهم في عينها فضلاء، وكلهم سواء، فكانت تنتقل بينهم في بيوتهم وتجد من الرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية في كل بيت من بيوتهم، فلها مجلسها وسريرها في كل بيت، فكانوا يرعونها وترعاهم بحياتها وعظيم مودتها، فلكم أيها الأوفياء منا جميعا كل حب ودعاء. ولك أن تنزل أيها القارئ الكريم هذه اللفتة من (أم محمد) وأولادها على صور من التقصير سواء من الآباء والأمهات أو من الزوج حينما يفضل إحدى الزوجات، أو غير ذلك من صور الرعاية والتربية الاجتماعية التي تتعدد فيها مشاهد التقصير في محيط مجتمعا. وله ولنا في عدل (أم محمد) قدوة حتى في إعاقتها وعلى سريها. ثامناً: إن سيرة الخالة العطرة (أم محمد) والعزيمة التي تمتلكها انعكست على قوة عزيمة أبنائها الأيتام. واليتم الحقيقي هو أن يفقد الإنسان الرعاية، فكم من ابن وبنت أبواهما يعيشان بينهما وفي بيت واحد لكنهم يفتقدون الرعاية والاهتمام والحنان، وذلك اليتم الحقيقي، فليس اليتيم الذي قد مات أبواه إِنَّ اليَتيمَ هُوَ الَّذي تَلقى لَهُ أُمّاً تَخَلَّت أَو أَباً مَشغولا وهكذا يسطّر الأيتام الثلاثة مسيرة عامرة بالعلم والعمل والجد حتى أصبح لهم أثر فاعل في مجتمعنا السعودي. وهكذا يجب أن تكون مسيرة الإنسان يتيماً أو غير يتيم، فخير الأيتام المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يغيِّر مجتمعه فقط، بل غير العالم بأسره. تاسعاً: ومن دروس شاهدة القرن (أم محمد) يمكن أن نقول إن من الأشياء التي يجب أن نؤمن بها كمسلمين أن عمق النية وصدق التوجه الذي يملكه الشخص ينعكس غالباً على قدرته على إدارة ما يقع تحت مسؤوليته، كما ينعكس على سمعته وصورته بين الناس والبركة التي يمتد إليه أثرها حاضراً ومستقبلاً، وتلك من سمات نورة بنت محمد التي جمعت بين حفظ القرآن ومعاصرة واقعها فلم تستسلم للواقع بل طوعت واقعها بكل جدارة ليرسم مستقبلاً مشرفاً لها ولأبنائها وأحفادها، وهذه رسالة لكل أم ومربية بأنها هي فعلاً من يشكل المواطن الصالح وبيدها من خلال تربيتها تتأسس المواطنة الحقّة التي هي أساس كل تنمية اجتماعية. إن الأم قبل الأب وبعده هي العامل الفاعل في مدّ المجتمع بالمواطن الصالح، وتلك وظيفتها الأساس، ولكل من يرى أن المرأة حينما لا تعمل خارج المنزل بأنها عاطلة، فإن سيرة أم محمد تأبى ذلك. عاشراً: هذا المعنى الذي قدمت به المقال من أهمية الاحتفاء بأصحاب (الفعل الاجتماعي) جسده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بتواصله واتصاله بأبناء وأسرة الفقيدة، رحمها الله، وجسد ذلك إخوانه الأمراء وأبناؤهم، فمنهم من اتصل، ومنهم من حضر كالأمير بدر بن عبد العزيز وأمير العاصمة الرياض الأمير سلمان، ذلك الصوت العاقل والواعي الذي أثنى على الفقيدة ووالدها الزعيم محمد بن شريدة، وأثنى وعزى أسرة السعيد في وفاة (أم محمد) رحمها الله، وذلك الحس الذي نريده الذي أكده أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء وكل من أتى ليعزي الكل في فقيدة الوطن (أم محمد). إن هذه المشاهد المثالية في عزاء هذه الشخصية النسائية (المدرسة) لتؤكد بكل وضوح أن من كان له أثر في الحياة سوف يتضح أثره بعد الممات. أخيراً وليس آخراً فهذه عشرة دروس مختصرة لسيرة عطرة لذلك الرمز النسائي الوطني العظيم ولبنت الرجل العظيم التي أنجبت عظماء، وإلى رحمة الله العظيم (يا نورة) و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}أجمعين.