الهزة التي حصلت في سوق الأسهم في الأسابيع الماضية وما تلاها من عدم استقرار في اليومين الماضيين أثارت اهتمام قطاع كبير من المواطنين بمعرفة الأحكام النظامية التي تخضع لها سوق المال فيما يخص تداول الأسهم، حيث أظهرت هذه الأزمة بوادر خطيرة قد تؤثر على جوانب عديدة في المجتمع؛ إذ حرص البعض على البحث عن ثغرات قانونية من أجل التخلص من الوفاء بالتزاماتهم تجاه الآخرين الذين منحوهم ثقتهم المطلقة في استثمار أموالهم، وظهر خلاف وجدل كبير بشأن ما يقع في السوق المالية، هل نسميها (مخالفات) أم (جرائم)؟ وهل هي عمدية بمعنى أنه لا يسأل الجاني فيها ولا يستحق العقاب إلا إذا توفر لديه القصد الجنائي؟ وهذه الاهتمامات وغيرها تفرض سؤالاً محدداً يتمثل في: (هل هناك حماية جنائية لسوق المال؟ وما مظاهر هذه الحماية؟). إن المشكلة التي حصلت تستوجب الحديث عن تلك الأسباب التي أدت إلى هذه الهزة من حث وجود الحماية العقابية؟ وهل هناك تحديد لوصف ما يقع في نطاق سوق الأسهم؟ هل تعتبر مخالفات؟ أم جرائم اقتصادية؟ أم أنها مجرد أفعال تحددها معايير السوق وأحوال المستثمرين؟ لو نظرنا إلى القاعدة الأساسية في موضوع التجريم والعقاب في المملكة لوجدنا أنها محكومة بقواعد شرعية ثابتة، وقد نص النظام الأساسي للحكم على ذلك، وهذا يعني أن جميع الأنشطة بما فيها الاقتصاد تخضع لهذه القواعد التي تقوم على أساس العدالة وقواعد التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص بما يحقق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطن في حدود أحكام الشريعة وما تقضي به الأنظمة، وقد حددت المملكة معالم المقومات الأساسية الاقتصادية بما لا يخرج عن (النظام الحر) الذي يستهدف الصالح المشترك، ومن أجل تطبيق هذا المفهوم أخذت المملكة بفكرة حرية رأس المال مع كفالة قدر معين من التكافل الاجتماعي استهدافاً للمصالح العامة، وجاءت مظاهر (الحماية الجنائية) للتنظيمات الاقتصادية أشد مما هي عليه في النظم الأخرى التي تأخذ بنظام الاقتصاد الموجه، ولا شك أن هذا الإدراك الواعي إنما يبعث على الاستقرار في السوق، وهو ما بدأت تدرك أبعاده معظم الدول مستفيدة من أحكام التشريع الإسلامي ومن تجربة المملكة في هذا الصدد. لنرجع إلى السؤال المطروح (هل هناك حماية جنائية لسوق المال؟). لابد أن ندرك أبعاد هذا السؤال، لا سيما في هذه المرحلة التي بدأت فيها الأسهم تستقر نوعاً ما، بعد أن بدأت تدخلات الدولة -أيدها الله- تأخذ شكلها الإيجابي؛ لأننا إن لم ندرك ذلك فسنصل إلى مرحلة قد نكون فيها غير قادرين على المعالجة أو تضميد الجراح، وعلى المعنيين بهيئة سوق المال أن يدركوا أن الحلول الجزئية والوقتية لا يمكن الاعتماد عليها بشكل دائم لا سيما في الجانب الاقتصادي الذي يخضع لمعايير متباينة تؤثر فيها المصالح بصورة سريعة ومباشرة. الحماية الجنائية المقصودة هنا هي في محاولة استظهار صور الجوانب السلبية والإيجابية لنظام سوق المال السعودية بشكل عام من خلال استقراء الأنظمة واللوائح الخاصة بهذه السوق؛ لأن النظام عندما يوضع إنما يهدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد قواعد تنظم سلوك الأفراد وتصرفاتهم في دائرة نشاط معين، فهل الأنظمة المتعلقة بسوق المال تراعي موضوع الحماية الجزائية بمفهومها الجنائي؟؟ نظام السوق المالية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م-30 وتاريخ 2-6-1424ه وإن كان نظاماً جديداً ومتميزاً إلا أنه لم يوضح (الحماية الجنائية) كما يجب، ومن يستعرض مواد النظام يجد أن جميع مصطلحاته جاءت تحت اسم (المخالفات) ولم يرد بينها أي مصطلح لمعنى (الجريمة الجنائية الاقتصادية) والغريب في ذلك أن النظام ذكر الأفعال والتصرفات المخالفة من واقع تسميتها (جنائياً) واعتبرها (مخالفات)، وهذا ما يلاحظه المطلع على المادة (49) وما بعدها، إذ وردت المخالفات تحت مصطلحاتها (الجنائية) مثل: الاحتيال، الكذب، التضليل، تغيير الحقائق، التعمد القصدي، التأثير، الاستغلال، إفشاء الأسرار، الإضرار العمدي، التلاعب، التحريض على البيع أو الشراء أو الاكتتاب، أو الإحجام عن ذلك... الخ، فهذه الألفاظ تعتبر ضمن النطاق الجنائي وإن كانت تدخل ضمن مفهوم المخالفات في بعض الأنظمة إلا أنها جاءت في نظام السوق المالية على خلاف الأصل، إذ يترتب على ارتكاب بعضها عقوبات تمس الحريات الشخصية مثل السجن، والمنع من السفر. المنصفون يدركون أن الهيئة جهاز وليد، ورغم حداثتها حققت نجاحات لا يمكن التقليل من شأنها، لكن ذلك لا يمنع من تطوير مستوى أدائها وبحث السبل المناسبة للارتقاء بدورها، وهو ما تدركه الهيئة بطبيعة الحال. فهل الهيئة وفق نظام السوق المالية القائم حالياً قادرة على تجريم الأفعال التي تقع في السوق، كالنصب، والاحتيال، والإضرار العمدي، والتلاعب، وإعطاء بيانات غير حقيقية للمشتري أو المقترض أو المرتهن بقصد إيهامه؟ وكذلك خيانة الأمانة من قبل أصحاب السلطة الوظيفية الذين يتمكنون بحكم وظائفهم من الاطلاع على أسرار السوق فيقومون بالمتاجرة بهذه المعلومات أو الاستفادة منها في التأثير على السوق أو جني الأرباح أو الإضرار بالمستثمرين؟ قد يقول قائل: إن هذه الجرائم محلها النظام الجزائي العام الذي يحكم الجرائم بكل أنواعها، حيث يتعذر إدراجها ضمن النصوص التي تتعلق بسوق المال!!! والجواب على ذلك: إنه وإن كانت محكومة بتلك القواعد، إلا أن مراعاتها في نظام يفترض فيه (حتماً) وجود مثل هذه الجرائم أمر ضرروي؛ لأنه نظام جمع بين الإجراء والجزاء، ولم يقتصر على تحديد المخالفة فقط، ثم إن هذه الحماية تكشف عن طبيعتها من ناحية ارتباطها بالنظام العقابي الذي يتضمن نصوصاً تجرم وتعاقب بعقوبات تصل إلى السجن أحياناً، كما أنها ذات أثر مباشر على جوانب مهمة في الحياة وهو الجانب الاقتصادي الذي يمثل أحد أركان الدولة، واجتماع هذين الأمرين لتلك الحماية يرتب دخولها تحت ما يعرف (بالنظام الجزائي)، ولهذا حرصت معظم الدول على دمجها في أنظمة العقوبات، ومن يدرجها في قوانين اقتصادية مستقلة أطلق عليها تسمية (الجرائم) لأن هذه الدول تدرك أنها ذات طبيعة جزائية، وهي كذلك بالفعل، وفي المملكة تم تطبيق ذلك في كثير من الأنظمة الخاصة بجرائم معينة، وتم التعامل معها وفقاّ لذلك هناك (جرائم الرشوة) و(جرائم التزوير) و (جرائم الاختلاس) و(جرائم إساءة استعمال السلطة)، وتعاملنا معها من منطلق كونها جرائم وليست مخالفات، ومن هذا المنطلق فإن واقع الحال في المملكة يستوجب إعادة النظر في موضوع (الجانب الجنائي لمخالفات السوق المالية) وبالذات ما يتعلق بالأسهم؛ لأن المعاقبة على الأفعال التي تعد ضمن المخالفات تتطلب توسعاً في فكرة (الفاعل) وأشكال المساهمة الجنائية وإمكانية تقرير جزاءات أخرى تسمح باسترداد الربح غير المشروع، وإعادته للمجني عليه أو المضرور من المخالفة.. أقصد الجريمة، وإمكانية إلزام الجاني بعمل ما أحجم عن عمله، أو بإزالة ما فعله بالمخالفة للنظام، مع تشجيع الأشخاص الذين تقع عليهم أضرار نتيجة هذه الأفعال بممارسة حقوقهم كمدعين بالحق الخاص، وكذلك حقهم في تحريك الدعوى العامة الجزائية. إن الأساس الشرعي والنظامي يعتبر الإضرار بالمصالح والأموال أحد أنواع الجرائم الجنائية التي يحاسب عليها الفاعل، وهذا ما تضمنه المرسوم الملكي الكريم رقم (43) لعام 1377ه الذي نص صراحة على أن الأموال والمصالح محل حماية جنائية وتعامل معها على أنها جرائم وليست مخالفات، رغم أن هذه لا تصل إلى مستوى جرائم السوق المالية، وقد يكون ضررها غير متعد. على هيئة سوق المال أن تدرك أن أهم المعوقات التي تعترض مسيرة السوق في الوقت الحاضر تتمثل في مظاهر ملموسة تحتاج إلى معالجة سريعة دون تأجيل، وأهم هذه المظاهر: 1- (المضاربة) التي رغم أن وجودها أمر طبيعي وصحيح في كل أسواق العالم، إذا ما بقيت ضمن حدودها المعقولة، إلا أنها إذا ما تجاوزت حدودها فإنها تصبح خطيرة على الاقتصاد الوطني، وقد تفاقمت في الفترة الماضية بشكل تعدى كل توقع، وذلك بتشجيع من غياب (الحماية الجنائية للسوق) لأن هذه الحماية هي القادرة على كبح جماح هذا التجاوز الهائل في المضاربة. 2- عدم الشفافية: حيث دخل معظم المستثمرين إلى السوق دون دراسة، وعدم إدراك، وإنما انسياقاً وراء ما يشاع وما يتم تداوله في المجالس والمنتديات، ولم تكن هناك معلومات وإرشادات كفيلة بتنبيههم إلى أوضاع السوق ومخاطرها، فوقع معظمهم ضحية تلاعب أو استغلال. 3- آلية التداولة والاستثمار: حيث ظهرت أساليب متعددة للتحايل على النظام هدفها جمع أكبر قدر من أموال الناس بحجة استثمارها دون ضوابط تحفظ حقوقهم، وسوف تظهر حالات لا يمكن تصديق حجم المبالغ التي استحوذت عليها. وستبقى السوق في حالة عدم استقرار وربما مركز (صراع) بين جهاز يطبق نظاماً محدود الجوانب وأشخاص يتمتعون بقوة رؤوس أموالهم وقدرتهم على استغلال ثغرات هذا النظام، واطمئنانهم المسبق بأن كل ما يفعلونه إنما هو مجرد مخالفات وليست جرائم. إن (الحماية الجنائية) لسوق المال هي الكفيلة بالقضاء على كل المظاهر المعوقة لمسيرة السوق، ذلك أن العقاب الجنائي هو الزاجر عن الفعل قبل ارتكابه وهو الرادع بعد ارتكابه، والجرائم الاقتصادية أكثر إغراء من الجرائم العادية، كما أن دورها -في الغالب- يكون متعدياً، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه بتسميتها (مخالفات) فسنشجع على ارتكابها وعدم الاهتمام بنتائجها، وستذهب كل جهود الهيئة دون فائدة، وهذا بالتأكيد لا تريده الهيئة ممثلة بمجلسها وهذه النخبة المتميزة من المتخصصين العاملين فيها الذين يسعون بكل جهد إلى إثبات كفاءتها، وإظهار حرص ولاة الأمر -يحفظهم الله- على أداء دورها كما يجب.وبالله التوفيق،،، البريد الإلكتروني: [email protected]