اختلفت آراء الناس وتوجهاتهم، وكثر نقاشهم حول قيمة الدنيا وزخرفها، حتى اعتبرها كثير منهم غاية لهم. وحُكْم الإسلام هو فصل الخطاب في ذلك، فإن الحياة في نظر الاسلام أهم من أن تنسى، ولكنها في الوقت نفسه أتفه من أن تكون غاية.. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}(77) سورة القصص. ألا وإن هنالكم خصلتين ذميمتين خطيرتين على من لم يحذرهما، تلاحقان الانسان ملاحقة شديدة حتى في الأحوال التي تشيب فيها اللحية وتضعف فيها الهمة ويدنو فيها من انتهاء العمر وزيارة القبر، خافهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته وحذرها منهما بأسلوب الإخبار المتضمن الإنذار، ألا وهما: (الحرص وطول الأمل).. الحرص على المال والشرف الذي يطوق الرقاب ويسترق الألباب، والحرص على العمر والحرص على الشرف الحرص المفقر لأهله مهما ملكوا من أمرٍ وجمعوا من حطام. وطول الأمل السراب المبلقع الذي طالما قطع الطريق على أهله وأحال بينهم وبين ما يشتهون، المتعب لهم الساحر بهم في خيالات يكون الأجل إليهم فيها أقرب من تحقق الأمل.. قال صلى الله عليه وسلم: (يهرم ابن آدم وتشب فيه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر) رواه مسلم. ومدار هذا الخبر مخاطبة ذوي القلوب الواعية والنفوس المتطلعة إلى ما عند الله أن يبذلوا جهدهم في تحرير عقولهم وسل نفوسهم من هذه الأدواء الفتاكة. وقديما قيل: (أذل الحرص أعناق الرجال). ألا وإن المال في دين الإسلام وسيلة لا غاية، وطلبه من طريق حله وطيبه أمر مشروع لكل مكتسب.. والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (من أصبح آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (رواه البخاري)، أراد بقوت اليوم الحال الوسط بين الضدين، لا حال الأثرياء المترفين الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين، ولا حال المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة والتشرد.. وخير الأمور الوسط، فإن الفقر كاد يكون كفراً، بل هو مظنة الاتكال على الغير، وربط الأمور مع الناس بما يملكون من مال، لا ما يملكون من خلق، فتختل عند الفقير المعايير.. كما أن الغنى مظنة الطغيان والوقوع في طريق الكسب المحرم بحثاً على المال بنَهَم، أو هو مظنة الفرار من الحقوق كالصدقة والزكاة وأوجه البر؛ ولهذا فإن من ملك قوت يومه فإنه يكون في منأى عن بطر الغنى وهوان الفقر، يكون كافاً عافاً.. ومن هنا جاءت حيازة الدنيا.. ولله در القائل: يا جامع المال في الدنيا لوارثه هل أنت بالمال قبل الموت منتفع قدم لنفسك قبل الموت في مهلٍ فإن حظك بعد الموت منقطع ألا وإن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد لينفقه فيما يعود عليه بالوبال والعذاب. ولقد حرص كثيرٌ من الناس على تضخيم أمر المال والكسب حتى ظنوا بسبب ذلك أنهم مسجونون في بيوتهم وبين أهليهم، استصغروا ما كانوا يكبرون من قبل، واستنزروا ما كانوا يستغزرون، أقفرت منازلهم من الأنس، وألفوا المال على مفهومهم القاصر، حتى أصبح المرء منهم في داره حاضرا كالغائب، مقيما كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه ما لا يعلم من حال القريب منه.. ألا ومن ألقى السمع وهو شهيد وطرح البصر وهو ليس بحديد وذلك في حال كثير من الناس اليوم يرى ذلك عيانا بياناً. وجُلّ حديثهم: كيف حال السوق اليوم؟ وما مدى ارتفاع المؤشر؟ وكم وصلت قيمة أسهم الشركة الفلانية؟ ومتى يطرح اكتتاب تلك الشركة؟ وكم تملك من تلك الأسهم المرتفعة؟.. وهلم جرا. وما هي إلا أيام معدودات، فإذا بالطوفان يأتي على تلك الأسهم كلها فتبقى قاعا صفصفاً.. أو قريبا من ذلك.. فإذا بذاك المضارب المغامر بماله يسقط مغشياً عليه، وإذا بالآخر تصيبه جلطة فتقعده طوال حياته، بل وإن منهم من أتته منيته في قاعة التداول جراء ذلك.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. وما دام الأمر كذلك، فلسائل أن يسأل: إذاً، أين السعادة والقرار؟ وأين توجد لمن يبحث عنها؟ وأين مكانها؟ ومن الذي أتى بالسعادة وأدخلها القلوب؟.. فنقول: إن السعادة هي الإيمان والعمل الصالح، وأما الذي أتى بها فهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأما مكمن وجودها فهو في تقوى الله ومخافته، وجدها يونس بن متى وهو في ظلمات ثلاث: ظلمة الحوت وظلمة اليم وظلمة الليل، فهتف بلسان ضارع حزين: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. ووجدها موسى عليه السلام، وهو بين ركام البحر وهو يقول: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد. ووجدها محمد صلى الله عليه وسلم وهو يطوق بالغار بسيوف الكفر ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}. كما وجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة وهو يجلد جلداً لو جلده جمل لمات. كما وجدها ابن تيمية وهو يكبل بالحديد ويغلق عليه السجان الباب داخل غرفة مظلمة فيقول ابن تيمية: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}. وبما أننا نتحدث عن السعادة في هذه الدنيا وأسبابها فإن الأمر الذي نتحدث عنه باقتضاب في هذه العجالة هو أمر أخروي لا دنيوي وراجح لا مرجوح، بل هو خير من كنوز كسرى وقيصر، وخير من مال قارون وخيرات سبأ. بل إنه من الحسنات اللائي يذهبن السيئات.. {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد وتقوى الله خير الزاد ذخراً وعند الله للأتقى مزيد وفي ضرب المثل غنية وكفاية لمن هم في الفهم والإدراك.. وإليكم أمثلة متنوعة لأنقى الأسهم وأفضلها على الدوام: قال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) (رواه أحمد). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.. الحديث) (رواه الترمذي). وقال صلى الله عليه وسلم: (من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد..) (رواه البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) (رواه الطبراني). وقال صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله) (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد اسماعيل) (رواه البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار) (رواه أبوداود). وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) (رواه البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا.. وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) (رواه البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليَّ بها عشراً) (رواه مسلم). ألا وإنما ما مضى ذكره إنما هو جزء من كل، ونقطة من محيط، والفرص الثمينة ما لفواتها من عوض، وإن انتهازها لدليل على قوة الإرادة. فمن علم خيراً فليبادر هواه لئلا يغلبه، فلعله يظفر بما إمضاء الوقت فيه الغنم.. وعلى الضد يكون الغرم. فاللهم اجعل خير أيامنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.. والله أعلم.