اعتاد قادة الدول في زياراتهم لنظرائهم أن ينهوا مباحثاتهم بإصدار تصريح صحفي أو بيان مشترك يعلن فيه ما تم التوصل إليه في جولة المباحثات من نتائج، لكن الملك عبد الله بن عبد العزيز كسر هذا التقليد حين ارتأى ألا يعود من الصين إلى وطنه الغالي إلا وقد تم التوقيع على مجموعة من الاتفاقيات للتعاون المستقبلي بين الصين والمملكة وبقية الدول الأخرى التي زارها، وهذا يحسب لخادم الحرمين الشريفين كإنجاز غير مسبوق إذ يتحقق بهذا الحجم والنوع وفي زمن جدّ قصير. وقبل أن أنهي الجزء الأول من هذه الانطباعات عن زيارة الملك، وهي عن الصين، لأبدأ الحديث عن محطته الثانية، وهي الهند، ومن ثم عن محطتيه الثالثة والرابعة في ماليزيا وباكستان، أريد أن أعيد إلى الذواكر ما كان قد أعلن من قبل من أن البلدين (الصين والمملكة) قد توصلا إلى صيغ للتعاون المشترك، بأن تم التوقيع على خمس اتفاقيات تنظم هذا التعاون، وذلك في مجالي النفط والغاز الطبيعي، وقطاع التعدين، وتجنب الازدواج الضريبي على الممتلكات والإيرادات ومنع التسرب الضريبي، وعلى قرض سوف يستخدم لتطوير البنية الأساسية لمدينة إكسو في منطقة شنجان الصينية، وهناك اتفاقية تخصّ مجال التدريب المهني للسعوديين، وأخرى حول التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني بين البلدين، وهذه الاتفاقيات، وهي بين الحكومتين، غير تلك الاتفاقيات التي وقعت بين رجال الأعمال في البلدين. الرئيس الصيني وهو يستقبل بفرح هذه النتائج التي تمخضت عنها زيارة الملك عبد الله ترجم موقفه بالقول: أنتم - موجهاً كلامه إلى الملك - صديق معروف ومحترم لدى الشعب الصيني، ولكم يد بيضاء لدفع تطور العلاقات بين الصين والسعودية. وفي هذه الزيارة سيسجل التاريخ صفحة جديدة للعلاقات الصينية - السعودية في القرن الجديد. والملك عبد الله لم يتمالك هو الآخر مشاعره ولم يكن في مقدوره أن يحتفظ بها أمام هذا الكلام الجميل من الرئيس الصيني؛ فإذا به يسارع إلى الردّ عليه بالقول: إننا نعتز بصداقتنا مع الصين، ونؤكد التزامنا بمبدأ الصين (الواحدة)، وأن ما تشهده الصين من ازدهار اقتصادي شامل هو مبعث تقدير العالم كله وإعجابه. إن ما يقلق الصين، وهي الدولة الثالثة من حيث القوة العسكرية والأولى من حيث عدد السكان، وما هو متوقع لها أن تكون الأولى اقتصادياً على مستوى العالم خلال هذه القرن، أن ثلاثة أرباع سكانها يعملون في الزراعة في ظل ظروف تشير إلى خطورة المستقبل إذا لم يُعَد النظر في السياسات المتبعة معهم، وبخاصة الضرائب التي لا تبقي لهم شيئاً من نتاج محاصيلهم. وفي تقديرنا أن التحول والانفتاح والتوجّه نحو دول العالم الذي طرأ على سياسة الصين، وجعلها الآن في هذا الموقع المتقدم اقتصادياً وتعليمياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً، هو الذي يوحي للمراقبين والمختصين بالتوقعات المتفائلة لمعالجة هذه المعضلة التي بقيت من ترسبات الماضي البغيض جاثمة على صدور الصينيين. وفي زيارة الملك عبد الله لهذه الدولة العظمى لاحظنا مؤشرات واقعية على ما يقوله المراقبون من أن قضية الزراعة في الصين لن تكون خارج الاهتمام الإصلاحي، وإن تأخر أخذ القرار الحاسم بشأنها؛ نسبة لما تم التعامل به في قضايا مختلفة كانت هي الأخرى تؤرق الصين، وتقض مضاجعها قبل أن تمتد يد الإصلاح إليها. ولعل إعفاء المزارعين من الضرائب الذي صدر به قرار من الحكومة بعد عودة خادم الحرمين الشريفين والوفد المرافق له إلى المملكة، يؤكد التوجه الصيني نحو إصلاح ما بقي من آثار الأنظمة والقوانين السابقة، وتحديداً ما يخص الشأن الزراعي. الملك عبد الله - بالمناسبة - لم يفوّت فرصة زيارته للصين دون استقبال الطلاب السعوديين وحثهم على الإسراع في إنجاز بقية متطلبات التخرج في الجامعات والكليات والمعاهد الصينية التي يتلقون تعليمهم فيها، مع كثير من النصائح الأبوية التي اقتضاها الموقف، لكنه في استقباله رجال الأعمال السعوديين الذين سبقوه إلى الصين للاتفاق مع شركاء صينيين على إقامة مشاريع صناعية وتجارية مشتركة، كان الموقف مختلفاً؛ فقد ركز في كلمته لهم على الصدق والإخلاص والشفافية في تعاملاتهم التجارية، مذكراً البنوك، تحديداً، بضرورة الإسهام والمشاركة بما يدعم التنمية في بلادنا، مع عدم إغفال أهمية تشغيل المواطنين في الشركات والمؤسسات والبنوك. وحين استقبل وفد المجتمع المدني السعودي الذي ضمّ عناصر من الجنسين يجيد بعضهم التحدث بطلاقة باللغة الصينية كان سعيداً وهو يستمع منهم إلى ما قاموا به من جهد للتعريف بما لا علم به لدى الصينيين عن المملكة، وإلى الأثر الطيب والانطباع الحسن الذي تركته جهود هؤلاء في الأوساط الصينية.