أنا لست ابنك، ولكنك كنت لي بمثابة الأب - إذ فقدت أبي يافعاً - تعلمت منك ما يتعلمه الأبناء من آبائهم، فقد كنت مدرسة في الأخلاق والمروءة والحكمة والتواضع، نعم التواضع الذي رأيته يتجلى في شخصك، وما أكثر ما سمعت المعزين يثنون عليك به، فأبشر فمن تواضع لله رفعه. كنت أميناً على ما استرعاك الله، في زمن كثر فيه التفريط بالأمانة وتضييع الأولاد وما يحيط بهم من أخطار وانحرافات، فأنشأت ذرية أقر الله عينك في حياتك بصلاحهم، وبدعائهم لك بعدما قدمت على ربك إن شاء الله. إنني يوم أكتب عنك فلأمور: أولها: أن البوح بما في النفس ومشاعرها مما يخفف عن المصاب مصيبته، إضافة لوجود من يسليه أو يواسيه أو يتوجع. ثانيها: هو نوع من الوفاء لمن استحقه، واعتراف بالفضل لأهله. وثالثها: لكي نعلم أن الدنيا ما زالت بخير، وأنها لم تخل من عمالقة يهتدي بهم في الأخلاق والإخلاص والشمائل والنبل ونكران الذات، حتى ولم يكونوا من المشاهير وذائعي الصيت، لأجل ذلك تحتاج أجيالنا المعاصرة لمعرفة سير هؤلاء النبلاء فهم أدعى للاقتداء بهم والتأسي. لقد كان -رحمه الله- رجلاً يشعر بالمسؤولية عند كل تصرف أو كل قول حتى مع الأطفال، فكان مثالاً نادراً على التحلي بالمسؤولية كما يجب، متحلياً بالحكمة في معالجة الأمور والحلم والأناة وسعة الصدر والصبر على اللأواء. استغنى عن الناس فأغناه الله عنهم (ومن يستغن يغنه الله) فكان على درجة من العفة فلم ينزل حاجته إلا بالله وحده فأعفه الله فجعله يداً عليا. كانت تعلوه الهيبة رغم تلطفه وتبسطه وحسن معشره، يعد فيما أعلم من النوادر الذين لا يعرفون المعاتبة، فلئن كان طبع بعض الناس كثرة العتاب على ما يستحق وما لا يستحق، فلقد كان -رحمه الله- لا يعرفها أبدا، بل كان من أعذر الناس للناس، وكان يأخذ ما عفا من أخلاقهم ويعذرهم فيما سوى ذلك امتثالاً لأمره تعالى: (خذ العفو)، ولقد كنت أحياناً أحمل هم مقابلته خجلاً من تقصيري تجاهه فما إن ألقاه حتى أجد البشاشة والسماحة تعلو محياه، عليه من الله شآبيب الرحمة، بل كان يبادرني الإعذار قبل تقديم العذر. لئن كان رحمه الله يفيض تقديراً واحتراماً للآخرين ولو صغروا، فقد نال أصهاره وأنا أولهم القدح المعلى والنصيب الأوفى من تقديره وتوقيره، وكان ذلك من بعد نظره وثاقب رأيه اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم. كثيراً ما أتحاور معه منذ شبابي، ولا أجد منه إلا الإصغاء والاهتمام والتصويب والتوجيه بالتي هي أحسن وأحكم. هكذا يرحل الكبار، يرحلون بصمت بعد أن ملأوا الدنيا بالعمل والعطاء والنبل والأخلاق التي لا يقدرها إلا الأوفياء. مع إيماننا العميق بقضاء الله وقدره ويقيننا بأن الفراق حتم، لم يدر بخلدنا أن يحدث بهذه السرعة ولكن نتساءل: هل يستحق الطب لدينا كل الثقة؟ إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضيك يارب. اللهم قد وفد عليكم عبدك طامعاً في كرمك وأنت أكرم الأكرمين، اللهم إنه كان كثير العفو فاعف عنه، اللهم إنه كان رحيماً بالضعفاء فارحمه، لطيفاً بالصغار فالطف به، كثير الإحسان فجازه بالحسنى وزيادة، كل ذلك ما أحسبه ولا أزكي على الله أحداً.