المملكة تختتم مشاركتها في الدورة الوزارية للتعاون الاقتصادي والتجاري "الكومسيك"    ترمب يوجه كلمة عاطفية للأميركيين في اللحظات الأخيرة    المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي يسجل 2457 جريمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين خلال أسبوع    خسائرها تتجاوز 4 مليارات دولار.. الاحتلال الإسرائيلي يمحو 37 قرية جنوبية    شتاء طنطورة يعود للعُلا في ديسمبر    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    "إنها طيبة".. خريطة تبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بالمنطقة    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    إشكالية نقد الصحوة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    إعادة نشر !    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    «DNA» آخر في الأهلي    سلوكيات خاطئة في السينما    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وماذا بعد رمضان؟

في مرور الأيام مدكر، وفي تصرم الآجال عبرٌ وأيّ عبر!! فإنّ الأيام تمضي جميعاً، والأعمار تطوي سريعاً، وإنّما أنت يا ابن آدم أيام مجموعة، كلّما ذهب يوم ذهب بعضك، وأعمالك فيه مرصودة لك، إمّا في صحيفة حسناتك أو سيئاتك، وصدق القائل:
نسير إلى الآجال في كلِّ لحظة وأعمارنا تطوي وهن مراحلُ
ترحّل من الدنيا بزاد من التُّقى، فعمرك أيام وهن قلائلُ
يخيّل للواحد منا أنه يزيد مع الأيام ويكبر، وهو في الواقع يتلاشى ويصغر، والأيام تهدم عمره من حيث يشعر أو لا يشعر، لأنّ عمره محدود، وأنفاسه معدودة، وكلّ لحظة تمر عليه فإنّما تذهب من أجله، وتنقص من عمره، وتبعده من الدنيا بقدر ما تقرِّبه من الآخرة:
وما المرء إلا راكبٌ ظهر عمره على سفرٍ يفنيه في اليوم والشهرِ يبيت ويضحي كلَّ يوم وليلة
بعيداً عن الدنيا، قريباً إلى القبر وليس لك أيّها الإنسان من عمرك إلاّ ما قضيته في طاعة ربك، واستودعته عملاً صالحاً تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع في مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم:
إنّا لنفرح بالأيام نقطعها
وكلّ يوم مضى يدني من الأجلِ فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنّما الربح والخسران في العملِ
لقد كنا نعيش رمضان بخيراته وبركاته، ونسعد بقيام ليله وصيام نهاره، ونفرح بتنافس المؤمنين فيه على الخيرات، واجتماعهم على الصلوات، وإمساكهم عن المعاصي والمنكرات، فما إن دخل هذا الشهر المبارك حتى ظلل المجتمع المسلم جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان، والإقبال على الخير وحسن الأعمال، وعمّ فيه انتشار الفضائل والحسنات، وكسدت سوق الفواحش والمنكرات، واعترى أهلها الخجل من اقترافها، أو على الأقل من المجاهرة بها وإعلانها، فكان للمتقين روضةً وأنساً، وللغافلين قيداً وحبساً، وكانت المساجد فيه عامرة، والقلوب خاشعة، والأكف ضارعة، والنفوس زاكية، والألسنة بذكر الله لاهجة.
أمّا اليوم فقد انقضت تلك الأيام، وتم الصيام والقيام، وانطفأت تلك المصابيح، وانقطع اجتماعنا لصلاة التراويح، ورجعنا إلى العادة، وفارقنا شهر الطاعة والعبادة. فسلام الله على تلك الأيام، وسلام الله على شهر الصيام والقيام! في ذمة الله يا شهر التلاوة والتسبيح، وفي دعة الله يا شهر التهجُّد والتراويح، وفي أمان الله يا شهر العبادة والإيمان الصحيح، ويا شهر المنافسة والمتجر الربيح، ويا شهراً يجود فيه حتى الشحيح، ويجتهد فيه حتى الكسيح: سلام من الرحمن كلَّ أوان
على خير شهر، قد مضى وزمانِ سلام على شهر الصيام فإنّه
أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغرُّ بغتة
فما الحزن من قلبي عليك بفان
وإنّ لنا فيما مضى من أعمارنا عبراً، وفيما قدمنا من الأعمال عظة وذكرى، فما منا من أحد إلاّ وقد فعل خيراً وشراً، وأسلف معروفاً ومنكراً، وخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاًً، فلنقارن بين ما كان منا من سيئات وحسنات، ولننظر مقدار الربح في هذا، والخسارة في ذاك، لندرك فضل الطاعة على المعصية، وحسن عواقب الطاعة في الدنيا والآخرة.
أمّا الطاعة فقد ذهب تعبها ومشقّتها، وثبت عند الله أجرها وذخرها، وسيجدها صاحبها أحوج ما يكون إليها: {ًيَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}، سيجدها مؤنسا ً له في قبره، وظلاً له يوم حشره، وسبباً لفوزه برضوان الله تعالى وجنته: }وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة الأعراف «43»)، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (سورة الحاقة «24»).
هذا جزاء المطيع في الآخرة، أما في الدنيا فإنّ له الحياة الطيبة، والطمأنينة الكاملة، والعيشة الهنيّة، والسعادة الحقيقية، وسيجد من توفيق الله له وإعانته، وتسديده وهدايته، وحفظه وحراسته، وإعزازه وإكرامه، وتيسير أموره، وتوسيع رزقه، وطرح القبول له في الأرض، والمحبة في قلوب الخلق، ما هو من أعظم العون له في أمور دينه ودنياه، مع ما يشعر به من لذة الانتصار على النفس والشيطان، وحلاوة القرب من الرحمن، والشعور بأنّه لن يغلب والله نصيره، ولن يخذل والله ظهيره، ولن يشقى والله مسعده ومعينه، ولن يضل والله هاديه ودليله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة العنكبوت «69»)، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (سورة محمد «11») وهذه هي المعية الخاصة، والولاية الخاصة، التي تقتضي النصر والتأييد، والهداية والتسديد، والتوفيق والإعانة. وللمؤمن من هذه الولاية الخاصة، والمعية الخاصة بقدر طاعته لربه، وإحسانه في القيام بحقوق الله تعالى وحقوق خلقه.
أمّا المعصية: فإنّ فاعلها قد يجد لذة حين اقترافها، ولكنه ينسى أنها لذة موقوتة، وأنّ لها شؤماً عظيماً، وضرراً كبيراً، يلحقه في دنياه وآخرته. أمّا في الدنيا، فإنّه يجد من الآلام والحسرات، ومن ضيق الصدر ونكد العيش، والتنغيص والتكدير، والقلق والاضطراب، وقلة التوفيق، وتعسير أموره عليه، ومن الذلة والمهانة، وانحطاط القدر وسقوط المنزلة، وظلمة القلب وسواد الوجه، وحرمان العلم والرزق، أضعاف أضعاف ما وجده من تلك اللذة. هذا فضلاً عما قد يصيبه في الدنيا من العار والفضيحة، أو الآفات السماوية، أو العقوبة على تلك المعصية بحد أو تعزير.
ولله در القائل:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
من الحرام، ويبقى الخزيُ والعارُ
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة، من بعدها النارُ
ولذا قال ربنا سبحانه محذراً وناصحاً عباده: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة النور «63»).
أي: فليخش أولئك المحادون لله تعالى بالطغيان، والمبارزون له بالعصيان، أن تصيبهم فتنة، أي: زيغ في قلوبهم، وضلال عن الحق، وعماية بعد الهداية، لأنّهم لم يشكروا نعمة الإيمان، ولم يرعوها حق رعايتها، فلا يأمنوا أن تسلب منهم هذه النعمة، لأنّ المعاصي عدو الإيمان، وبريد الكفر، وسبب غضب الرب ومقته، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النور «63»).
أي: في الدنيا بآفة سماوية أو حد أو تعزير، وفي الآخرة بعذاب النار، وبئس القرار. قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقارن بين الحسنة والسيئة: (إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق).
أمّا في الآخرة فإنّ هذه السيئة قد كتبت على صاحبها، وسيجد جزاءها وسوء عاقبتها يوم الجزاء والحساب: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (سورة آل عمران «30»)
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة المجادلة «6») ، يوم يقول المجرمون وهم خائفون نادمون: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (سورة الكهف «49»)، لقد وجدوا ما عملته أيديهم، واقترفته جوارحهم، ولا يظلم ربك أحدا. هذا هو حال العاصي مع ذنوبه إلا إذا أسعفه الله تعالى بتوبة صادقة نصوح.
وقد صدق القائل: إنّ أهنأ عيشة قضَّيتها ذهبت لذتها، والإثم حلّ فالبر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت.
وماذا يغني عن الإنسان تلذذه بالمعصية في هذه الدنيا، ثم يكون مآله إلى جهنم في الآخرة، يقول الله تعالى عن الكفار وأشباههم من عصاة المسلمين:{أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} (سورة الشعراء «205») أي : مدة حياتهم في هذه الدنيا). {ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ} (سورة الشعراء «206») ( أي : الموت وما بعده من حساب وعذاب). {مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} وقال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سورة الحجر «3»)، سيعلمون مصيرهم الأسود، وسيندمون ولات ساعة مندم!
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (سورة النازعات «39»). وروى الإمام مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة (أي: يغمس فيها غمسة واحدة) ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت خيراً قط، ولا مر بي نعيم قط)، بغمسة واحدة في العذاب نسي كل ما كان يتمتع به في هذه الدنيا من شهوات ولذائذ محرمة، فما حاله يا ترى إذا كان مخلداً في نار جهنم! {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} (سورة فاطر «36»)، {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} ( سورة الإسراء «97»).
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة يوم القيامة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يارب، ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)، بصبغة واحدة في النعيم نسي كل ما كان يعانيه في هذه الدنيا من بأس وشدة وبلاء.
فانظر أيها المسلم من أي الفريقين أنت؟ واعلم أن الجزاء من جنس العمل، وأنه على قدر عملك في هذه الدار تكون منزلتك في دار القرار: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (سورة الأنعام «132») {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (سورة فصلت «46».
لقد انقضى رمضان، وتصرمت أيامه، وتم صيامه وقيامه، وذهبت أتعابه وآلامه، وطويت صحائفه بما قدمنا فيها من خير أو شر، فيا ليت شعري من الفائز منا فنهنيه؟! ومن المحروم منا فنعزيه؟! كم هو محروم من حرم خير رمضان؟ وكم هو خاسر من فاتته المغفرة والرضوان؟ غداً توفي النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤا، فبئس ما صنعوا. وقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء هم الذين مدحهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (سورة المؤمنون «60»)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: لا، يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم) حديث صحيح رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ( سورة المائدة «27»).
وقال فضالة بن عبيد: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبّل مني مثقال حبة من خردل، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأنّ الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (سورة المائدة «27») .
وإن من أسباب القبول، ودلائل التوفيق: إتباع الحسنة بالحسنة، والمداومة على فعل الطاعة، والبعد عن المعصية. قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة: السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة: الحسنة بعدها.
فيا من كان يلح على ربه بالعتق من النار، إياك أن تجر نفسك إليها بفعل السيئات والأوزار، ويا من أكرمه الله بطاعته، إياك والعودة إلى معصيته ومخالفته، ويا من اعتاد حضور المساجد، وعمارة بيوت الله، بأنواع الذكر والصلاة، أثبت على الطريق، واستقم على الجادة، وحافظ على الجمع والجماعات، وإياك أن تكون ممن قال الله فيهم: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (سورة النساء «142»)، ويا من وفقه الله لقيام الليل، لا تحرم نفسك هذا الفضل في بقية العام، فقد شرع الله لك قيام الليل في جميع الليالي، ووعدك عليه بعظيم الأجر وجزيل النوال.
وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الصلاة بعد الفريضة ؟ فقال: (صلاة الليل) رواه مسلم.
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل).
وقد مدح الله عباده المؤمنين بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (سورة السجدة «16») وقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (سورة الذاريات «17»).
فاحرص يا رعاك الله على صلاة الليل ولو أن توتر بثلاث ركعات، أو ركعة واحدة على الأقل.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أوتروا يا أهل القرآن، فإن الله وتر يحب الوتر) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. ويقول الإمام أحمد رحمه الله : (من ترك الوتر ثلاث ليال، فهو رجل سوء، لا تقبل شهادته).
ويا من ذاق حلاوة الصيام، لا تحرم نفسك منه بقية العام، واعلم أن الله شرع لك صيام الاثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر. وأفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
فإن ضعفت عن هذا، أو شغلت، فلا تغلبنّ على صيام الست من شوال فإنّ صيامها مع رمضان، يعدل صيام الدهر كله، فعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) رواه مسلم.
ووجه ذلك: أنّ الحسنة بعشر أمثالها، فيكون رمضان عن عشرة أشهر، والست من شوال عن شهرين.
ويا من كان يسأل ربه كل يوم ويدعوه في القنوت وعند الإفطار، لا تحرم نفسك من الدعاء بقية العام، فإنّ الدعاء هو العبادة، كما قال ربنا سبحانه : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (سورة غافر «60»)، فعبر عن الدعاء بالعبادة، فقال: (عن عبادتي)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وذلك أنّ الدعاء يجتمع فيه أركان العبادة الثلاثة على أكمل وجه وأتمه: من كمال الحب، وكمال الخوف، وكمال الرجاء، فإنّك حين ترفع أكف الضراعة إلى ربك، وأنت تعلم يقيناً أنّ الخير كله بيديه، وأنّ عنده خزائن السموات والأرض، وأنّه الرحيم الكريم، ذو الفضل العظيم، يحب الملحين في الدعاء، ويغضب على عبده إن لم يسأله، فإنّه يمتلئ قلبك بمحبته، والشعور بعظيم فضله ومنته.
كما أنّك تتذكر ذنوبك وتفريطك في جنب الله، فتخاف من غضبه عليك، وحرمانه إياك خير ما عنده بسوء ما عندك، وأن يرد دعاءك بسبب ذنوبك، وهذا هو كمال الخوف.
كما أنك وأنت منكسر بين يديه، رافع أكف الضراعة إليه، وهو الحيي الكريم، اللطيف الرحيم، واسع الفضل والمغفرة، مبتدئ بالنعم قبل استحقاقها، متفضل على عباده قبل السؤال، فكيف به بعد السؤال؟ فيحملك ذلك على رجائه بصدق، والطمع بفضله ورحمته. وهذا هو كمال الرجاء.
وكما أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، فهو من أعظم أسباب جلب المحبوبات، ودفع المكروهات، وهو سلاح المؤمن وعدّته في الشدة والرخاء، والله تعالى يحب الملحين بالدعاء، ولا يمل من كثرة العطاء، ولذلك أمر عباده بسؤاله وحضهم عليه، وآجرهم على ذلك، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من لم يسأل الله يغضب عليه) فإذا ألححت على الله بالدعاء، كنت منه أقرب، وإليه أحب، بخلاف ابن آدم، الذي يضجره كثرة السؤال، ويمله الإلحاح في الطلب.
ولله در أبي العتاهية حين قال:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة
وسل الذي أبوابه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله
وبنُيُّ آدم حين يُسأل يغضب
فاجعل سؤالك للإله فإنما
في فضل نعمة ربنا نتقلب
وهكذا، فإن كان رمضان قد انقضى فإنّ عمل المؤمن لا ينقضي إلاّ بالموت، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (سورة الحجر «99») يعني الموت، وقال عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (سورة مريم «31»)، وبئس القوم قوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان، حتى كأنما يعبدون رمضان، لا رب رمضان!! والله تعالى لا يرضى من عبده أن يكون (ربانياً) في رمضان: يسجد ويركع، ويبتهل ويتضرع، ويخضع ويخشع، ويبذل ويتبرع، فإذا انقضى رمضان انقلب من رباني إلى (حيواني) أو (شيطاني)، فإنّ من الناس من يجتهدون فيه بأنواع الطاعات، فإذا انقضى رمضان، هجروا القرآن، وتكاسلوا عن الطاعة، وتركوا الصلاة مع الجماعة، وودعوا الصيام والقيام، وأقبلوا على المعاصي والآثام، فهدموا ما بنوا، ونقضوا ما أبرموا، واستدبروا الطاعات بالمعاصي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبدلوا نعمة الله كفراً، وصاروا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. وتلك والله هي النكسة المردية، والخسارة الفادحة. ولذلك كان بعض السلف يقولون: كن ربانياً ولا تكن رمضانيا.
اللهم إنا نسألك رحمة تغفر بها ذنوبنا، وتحيي بها قلوبنا، وتزكي بها نفوسنا، وتهدينا بها للتي هي أقوم، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، والموت راحة لنا من كلِّ شر، وأعد علينا شهر رمضان أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن أكمل إيماناً، وأقوى يقيناً، وأحسن حالاً، وأكثر صلاحاً، وأعده على أمة الإسلام، وهي ترفل في ثوب العزة والكرامة، والنصر والتمكين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.