من تأمل حال الدنيا وجدها حياة سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف عند الوفاء، فهي تسير سيراً حثيثاً، تطوي الأعمار طياً عنيفاً، فهي دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وحيها يموت. في يوم الخميس 27-7-1426ه فجع كل محب للخير بسماعه نبأ وفاة علم من أعلام محافظة الزلفي وعابد من عبادها وزاهد من زهادها الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد النافع الذي عرف عنه - رحمه الله - حبه الشديد، وتعلقه الفريد بالمسجد، ذلك المكان الذي هو من أحب البقاع إليه، وأفضل الأماكن لديه فإذا ما أتيت عنه سائلا فهو لا محالة في المسجد قائما. نعاه الصغير والكبير، وبكاه الرجال والنساء، وتحدث عنه الدعاة والخطباء، وكتب عنه العلماء الأجلاء، وتقدم الأحباب إلى أهله بالعزاء، وشاركهم حزنهم هذه الجريدة الغراء، وأصحاب السمو الأمراء، وأصحاب الفضيلة العلماء، فلهم جميعا من الله خير الجزاء. ولعلي أقف عدة وقفات في حياة هذا الرجل العابد الزاهد الذي شهد له بالصلاح والاستقامة والدين كل من عرفه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنتم شهداء الله في أرضه) أخرجه الشيخان. أذكر أنني قمت بزيارة لفضيلة الشيخ عبد الله بن غديان عضو هيئة كبار العلماء في مقر الإفتاء في الرياض وسألني عنه - رحمه الله - ثم قال: (أخوالك هؤلاء عرفوا بالدين والصلاح.. كنا ندرس العلم قديماً في منزلهم). من تأمل سيرته - رحمه الله - تعلق قلبه به، وأحبه من أعماق قلبه، وتأسف على رحيله، فسيرته تذكرك بسير السلف الصالح، فنحسبه - رحمه الله - ممن استعملهم الله في طاعته، وممن فتح الله لهم أبواب الخير، فإذا ما ذكر المسجد ذكر رحمه الله، وإذا ما ذكر الصيام ذكر، وإذا ما ذكر الجود والإحسان وتلاوة القرآن ذكر، وإذا ما ذكر الحج والعمرة والأمر والنهي ذكر رحمه الله، فقد عرف للدنيا حقيقتها، فنظر إليها بعين فاحصة، فعلم أنها فانية، ثم فكر ملياً في آخرته فارتحل إليها بقلبه قبل أن يرحل إليها بدنه. علم - رحمه الله - أن الأذان من أجل العبادات، وأفضل القربات، وقد جعل الله له من الثواب ما لو علم الناس بمقداره لتنافسوا عليه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، فلم يفوّت الفرصة فاغتنمها وانتهزها، وسمع - رحمه الله - أن المؤذنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة إذا ألجم الناس العرق جزاء ما رفعوا أصواتهم بذكر الله فرفع صوته بالأذان مدوياً ما يزيد على 42 سنة ست مرات يومياً عله يناله ذلك الأجر العظيم، وما أن علم بأن المؤذن يشهد له كل شيء يسمعه إلا وقلبه يزداد بالأذان تعلقاً وبه تمسكاً، فكم من مناسبة اعتذرها، وكم من دعوة أجلها، وكم من وليمة أخرها؟ كل ذلك يقول: هل ستمنعني من أداء الأذان ورفع كلمة التوحيد أم لا؟ وقد عرف عنه - رحمه الله - حبه الشديد للمسجد وملازمته له، وتعلق قلبه به، فلا راحة له إلا فيه، ولا سعادة له إلا به، ففي المسجد يجد لذته، وفيه تكتمل سعادته وفرحته؛ لذا كان يجلس في المسجد دائماً ولا يخرج منه إلا نادراً، فهو يذكرك بما أورده ابن حجر - رحمه الله - عند ترجمة لسعيد بن المسيب - رحمه الله - حيث قيل عنه: (ما نودي بالصلاة من أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد)؛ فهو بحق رجل قلبه معلق بالمسجد، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً. أما عن بعض جوانب عبادته فسبحان من وفقه لفعل الطاعات والمسارعة للخيرات، فإذا ما أتيت إلى باب الصيام فهذا مجاله - رحمه الله - فصيام الاثنين والخميس، وصيام الأيام البيض، وتسع ذي الحجة، وصيام عاشوراء، وست من شوال كل ذلك من المسلمات عنده. وأذكر أنه في كل عام من شدة حرصه ومبادرته يبدأ في اليوم الثاني من شوال بالصيام ويقول: (أريد المبادرة بالعمل الصالح فقد يحول بيني وبين إتمام الأجر حائل). وإذا ما أتيت إلى باب قراءة القرآن فقد كان - رحمه الله - كثير قراءته، كثير ختماته، حتى أنه قبل توليه الأذان كان إماماً، وكان يختم القرآن في رمضان بالمصلين ختمتين، غير التي تخصه - رحمه الله - ومن توفيق الله له أنه قبل وفاته بساعات قلائل كان يقرأ القرآن بصوت خافت ويتلو قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وإذا ما أتيت إلى باب الصلاة فهو - رحمه الله - دائماً في صلاة (فالرجل في صلاة ما دام ينتظر الصلاة)، وإذا ما سألت عن اعتكافه فستبكيه غرفته (معتكفه) التي طالما عمرها بالقراءة والصلاة والذكر والدعاء فلم يفارقها طوال عمره، فكل من يعرفه - رحمه الله - يقول: منذ عرفنا هذا الرجل وهو ملازم للاعتكاف في كل عام. وإذا ما أتيت إلى باب الأمر والنهي فذلك عمله، وهو همه وشغله، فكان - رحمه الله - يأمر وينهي، يأمر بالخير والصلاح وينهى عن الشر والفساد، وقد وهبه الله هيبة في قلوب الخلق فمن رآه بديهة هابه، ومن خالطه وجالسه أحبه، وقد كان - رحمه الله - يسعى على الأرامل والمساكين ويوزع الصدقات والهبات يقوم بذلك بنفسه قبل أن يوكل إلى جهات حكومية. عاش - رحمه الله - 90 عاماً كما يريدها الصالحون، المخبتون، الطائعون، عمر ليله بالاعتكاف والصلاة وتلاوة القرآن وعمر نهاره بالصيام والأذان وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرحمك الله أبا عبد الله فقد عرفت لماذا خلقت..!! ونحسبه - رحمه الله - ممن اتصف بصفتين لازمتاه طوال حياته جاءتا في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - نسأل الله أن يكون منهم - وهما رجل قلبه معلق بالمساجد وشاب نشأ في طاعة الله. وبعد هذه الجوانب المضيئة في حياة هذا الرجل العابد الزاهد، ولما كانت سنة الله نافذة، وأمره واقعاً، كانت الفاجعة، فودعت البلاد حبيب العباد، فقيد المآذن، بكته جموع، وذرفت لأجله دموع، وكم سيبكيه جامعه الذي طالما رفع الأذان فيه، ومحرابه الذي أكثر من الصلاة فيه، وغرفته التي أطال فيه الركوع والخضوع. سار الناس في موكب عظيم، وتجمع خلق كثير، وجمع غفير، حضروا منذ وقت مبكر عصر يوم الخميس في مغسلة الموتى القريبة من جامعه الذي كثيراً ما غسل الموتى فيه. امتلأت المغسلة بمحبيه وفاقديه، فتزاحموا حتى أن أحفاده وبعض أولاده جلسوا خارجها، كل يريد أن ينظر إلى وجه من اجتمعت فيه كل تلك الخصال، كل يريد أن يزرع قبلة الوداع على ذلك الجبين الذي أكثر لله السجود، كل يريد أن ينظر إلى من أفنى 90 عاماً في طاعة وعبادة وصدع بكلمة التوحيد منادياً بأعلى صوته ما يزيد على 40 عاماً بكل إتقان وإحسان وما نظر إليه أحد في تلك الساعة إلا وتذكر قوله الله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} صلى الناس عليه مغرب يوم الخميس وكأنها صلاة جمعة، فقد امتلأ الجامع بالمصلين وصلى الناس في الساحات وامتلأت بهم الطرقات وخرجوا بنعشه والخلائق حوله يتدافعون، ولنعشه يتزاحمون، أعيدت الصلاة عليه ثانية في المقبرة لكثرة من لم يتمكن من الصلاة عليه في الجامع، فقد قض موته المضاجع، وانهالت لأجله المدامع، تجمع خلق لا يعلم عددهم إلا من خلقهم حتى قال بعضهم: لو اجتمع من حضر بالمقبرة في الجامع لامتلأ مرتين أو ثلاثاً، ثم أعيدت الصلاة عليه بعد دفنه ولم يتفرق الناس إلا قبيل أذان العشاء، وصلى عليه - رحمه الله - بعض الدعاة والعلماء من الغد ممن لم يكن حاضراً يومها.. فآهٍ على تلك الجنازة ما أعظمها فلو قيل إن جنازته - رحمه الله - لم تشهد الزلفي لها مثيلاً لم يكن ذلك بعيداً، وهنا يظهر مصداق قول الإمام أحمد - رحمه الله -: (قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز). وأخيراً.. إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقه لمحزونون. الرؤى والمبشرات فيه - رحمه الله - كثيرة عديدة؛ فقد رأى أحدهم في الليلة التي سبقت وفاته جدار الجامع الذي كان يؤذن فيه أنه قد هدم فلما أصبح الناس إذ بنبأ وفاته - رحمه الله - يقرع الأسماع، ورأى آخر إحدى الفتيات الحسناوات فسأل عنها فقالوا له هذه أعدت لعبد الرحمن النافع، فأتى لمنزله مبشراً له فصعق بخبره وآلمه أمره؛ حيث لم يعلم بنبأ وفاته إلا تلك الساعة فرحم الله أبا عبد الله رحمة واسعة وجمعه بمن أحبه في دار كرامته.