* نحن هنا حيال قصيدة تنمو داخل الذات تعبر عنها، وتصوب تجاهها الأسئلة * إن تحقق زمنية الاستقبال هنا رهين بتحقق هذه الأفعال الطلبية، وهي قد تتحقق أو لا تتحقق، وهنا يبقى أفق التأويل مفتوحاً بإطلاقه * إن الشاعر وهو يحيط أبيات قصيدته بفعل الرؤيا، إنما يعطيها نوعاً من القداسة الشعرية إذا صح التعبير، وهي قداسة جمالية فنية، تفضي إلى قدر كبير من الصدق الفني (5) تنطوي قصائد الديوان على قدر كبير من مساحات الاستقبال، هذه المساحات خارج الموضوع الوطني تكون أكثر إلحاحا على آلية التخيل خاصة حين ترتبط بما هو ذاتي، وجداني.. ولعل ولع الشاعر بمتابعة الحدث الوطني جعله يصرف قدرا كبيرا من شعره على هذه المتابعة، مما شكّل أفقا حدثيا زمنيا لقصائده، هذا الأفق يكمن أيضا بالضرورة في القصائد اللاوطنية التي ربما يكون المجال الشعري فيها أكثر حميمية وقربا من الذات الشاعرة حيث لا انفصال هنا بين الذاتي والموضوعي، بل الذات تتمرأى في مرآة الذات، فتتكشف المكامن، وتتضح الأعماق بشكل شعري رهيف ومخايل. وتمثل قصيدة:(وحدك) هذا التمرئي الذاتي المشمول بمساحة كبيرة من زمنية الاستقبال، ويصدرها الشاعر بقوله: (حاول أن تخلو بنفسك، وأنت تقدر، فغداً تبيت وحدك وأنت لا تقدر) يقول الشاعر: سافر بأعماق الدجى في الليل وحدك واعبر فجاج الحزن منفردا وغص في لجة الأسفار وحدك واسكب دموعك -إن بكيت على رفيق الليل- واستصفيت سهدك عبقا على الأغصان والأكوان وازرع في جبين الفجر وردك *** سافر فما أغناك أن ترد العناء على ضفاف الهم وحدك أو تحتذي الحصباء تحت القيظ وحدك.. وتهيم في البيداء وحدك.. *** سافر وغص في لجة الأحزان وحدك.. واحمل بقية آهة جادت بها في الليل عاصفة وفر للجوزاء وحدك.. *** وانفض عن القلب الشجون.. وانزع عن النفس الظنون.. بأن من أحببت قد يبكيك بعدك.. وأقم كحد السيف للاشباح حدك.. وتخل عن قيم التراب وخل خير الأمر وردك.. وهناك تنعم بالنجوم وللنجوم تعيش وحدك.. *** تنمو القصيدة هنا في فضاء ذاتي، وهي تخاطب الذات من موقع الالتفات، إن الذات هنا ذات متأملة تنسج رؤاها في دلالات الأشياء، وهي إذ تكون ذاتا متأملة فإنها نتاج خبرات ورؤى، لا يأتي التأمل كنوع من الكشف أو المعرفة، أو كنوع من المراقبة فحسب، إنه نوع من إسقاط الخبرة المتراكمة والتجربة التي تعايش مختلف الوقائع والأحداث على الشيء، على السوى، على ما هو خارج الذات. القصيدة تقول ذلك، والشعرية العربية بتاريخها الجمالي المعهود تنبؤنا بهذا الحدس الشعري الذي يرى أن التأمل نتاج خبرة ودراية وتجربة، التأمل لا يكون في مقام الفطرة والبراءة على إطلاقهما بل هو نتاج معايشة للحياة، لذلك فإن ما ينجم عن ذهنية المتأمل يكون دائما عرضة للمصداقية، وعرضة أيضا لطرح الأسئلة المتعددة على النص الشعري. في هذه القصيدة نحن إزاء تأمل في المستقبل، يعزز ذلك توارد أفعال الأمر التي هي طلب مستقبلي كما ذكرنا في قراءة القصيدة الحديثة سابقا التي تتناول الموضوع الوطني، لكن نحن هنا حيال قصيدة تنمو داخل الذات تعبر عنها، وتصوب تجاهها الأسئلة. تبدأ القصيدة بفعل الأمر (سافر) وتشير دائما إلى وحدانية الذات، السفر هنا للذات المخاطبة التي هي - بتذكر الالتفات- الذات الشعرية نفسها. السفر هنا ليس مجرد سفر في المكان، بل سفر في الزمان أيضا (سافر بأعماق الدجى في الليل وحدك) السفر هنا في الدجى في الليل، أي أن السفر يتم بشكل مستتر، تتخفى فيه الذات المسافرة، وتتقنع، فهل الاستتار هنا نوع من الهروب من الواقع أم صعود للذات في كينونتها المعتمة العميقة، وكشف لوضاءتها المكنوزة التي يعبر عنها الشاعر تاليا. السفر هنا في زمنية المستقبل، لأن الفعل طلبي أي أنه قد يقع وقد لا يقع، هنا يطلق فعل الأمر، والقصيدة هي التي تحققه أو لا تحققه، وقراءة أفق توقعات القصيدة هي التي تحققه أو لا تحققه.. ثم إن السفر في الزمان.. هل يتطلب انتقالا وحركة أم يتطلب تخيلا؟ القصيدة تتواتر عبر آفاق التخيل، والانتقال الزمني لا الانتقال المكاني بالضرورة. ثمة ربط زمكاني في القصيدة حيث تتكرر دلالات المكان، مثلا: (الحصباء، البيداء)، ودلالات الزمان، مثل (الليل، الفجر) وهي كلها مناطة بالاستقبال، ويمزج الشاعر بين ما هو حسي ومعنوي في بعض تعبيرات القصيدة، بحيث يتحول ما هو معنوي إلى مكان أيضا، مثل:(فجاج الحزن، لجة الأسفار، لجة الأحزان، ضفاف الهم). وتتشكل القصيدة من أربعة مشاهد، تبدأ ثلاثة منها بكلمة (سافر)، والسفر مرتبط بدالة الحزن، ومرتبط باللجة والخوض، (غص في لجة الأسفار وحدك.. غص في لجة الأحزان وحدك).. وهو سفر معنوي شعري، لا يتطلب بالضرورة انتقالا مكانيا، بشكل تأويلي، حيث يطلب الشاعر (اسكب دموعك.. عبقا على الأغصان والأكوان) هو سفر لا يحد، سفر إلى الأكوان، أي أن الروح هي التي قد تسافر لا الانتقال الحسي من مكان لآخر، لذا فنحن حيال: فجاج الحزن، ولجة الأسفار، ولجة الأحزان، وضفاف الهم. إنه سفر للخلاص من الحزن، مواجهة الحزن بالحزن، بالانتقال إلى عالم آخر، مطلق لا يحد، (وهناك تنعم بالنجوم، وللنجوم تعيش وحدك). ثمة توكيد في القصيدة على ما هو فردي، وتكرار دالة (وحدك) حتى ذكر مفردة السيف التي تدل تراثيا على الفردية: (وبقيت مثل السيف فردا)، حين يذكر (وأقم كحد السيف للأشباح حدك). إن تحقق زمنية الاستقبال هنا رهين بتحقق هذه الأفعال الطلبية، وهي قد تتحقق أو لا تتحقق، وهنا يبقى أفق التأويل مفتوحا بإطلاقه، وفي هذا الأفق تكون متعة القراءة، والبحث عن الدلالة الكامنة بالقصيدة. هل أسفار الذات الشاعرة هنا إلى زمن آخر هو نوع من الهروب من معايشة قضايا الواقع؟ أم هو نوع من التأمل والتخيل؟ في شعرية الدكتور سعد الغامدي لا يمكن أن يتم تأويل هذه الأسفار بأنها نوع من الهروب قدر ما هي نوع من الاكتشاف، إن الذات الشاعرة تريد أن تبتكر من جديد، أن تفارق أحزانها قليلا، أن تتخلى عن همومها وشجونها، أن تقف بشكل جديد على عالمها وواقعها، أن تطل على العالم من منظور آخر، من بصيرة نقية من الهموم حتى يمكن لها أن تبتكر أيضا هذا العالم وتعيد إنتاجه بشكل جديد: وانفض عن القلب الشجون وانزع عن النفس الظنون *** وتخل عن قيم التراب وخل خير الأمر وردك وهناك تنعم بالنجوم وللنجوم تعيش وحدك يتحقق هذا الفعل المشمول بزمنية الاستقبال عبر الرجوع إلى الماضي والحاضر معا، لابد من محو هذين الزمنين أولاً، لابد من التخلص منهما.. هدم زمني من اجل بناء زمني آخر، هل الذات الشاعرة هنا وهي تحفز مكنوناتها تشير بمعنى أو آخر إلى مكوناتها وهويتها، أي أن التغيير الذي سيحدث بشكل خاص لها من الممكن تعميمه، أي أن تغيير العام ينبع من تغيير الخاص وتجديده، بإماتة وهدم اللحظتين: الماضية والحاضرة لانبثاق لحظة المستقبل؟ ثمة تأويلات كثيرة يمكن أن تمنحنا إياها هذه القصيدة التي تشكل جوهرا دلاليا لدى الشاعر للسفر صوب المستقبل وآفاقه الطليقة. (6) يمثل الغد، والفجر، والبشارة، والحلم، والرؤيا، والقادم، والآتي، بعض أشكال الحقل الدلالي الخاص بالمستقبل، وهذه المفردات تتكرر للتعبير عن زمن الاستقبال، خاصة: الغد، والفجر، وهما مفردتان تحملان البشارة، والأمل، وتختصران الدلالات المستقبلية الأخرى. الشاعر في بعض قصائده يكرر هاتين المفردتين، هو مؤمن بأن ثمة فجرا صادقا قادم، وبأن ثمة غدا سيغير الأشياء ويحولها من لحظتها الساكنة إلى لحظة أكثر حيوية.. وهذا ما يتبدّى من قصائد الديوان.. على هذا فإن فيض الأمل لا ينقطع في قصائد الديوان. الحالة الشعرية في الديوان حالة متفائلة بالمستقبل الوضيء، ولهذا فإن الشاعر ينور قصائده بدلالات هذا المستقبل. يتجلى ذلك في قصيدة: (عشق لغير امرأة.. وكانت الجامعة) حيث يتغزل الشاعر في (الجامعة) ويبرز دورها الحضاري المؤثر، وهو على الرغم من حدث الواقع الدراماتيكي، وبالرغم من الحياة العربية الراهنة يبرز هذا الدور ويخطو صوب المستقبل، صوب فجر جديد: الفجر يسفر من جبينك ضوءه والمجد تنسجه يداك وترسمُ وأرى طلائع من نداك كريمة يدنو بها ثمر.. ويغدق موسمُ وسحابة.. من راحتيك ندية تروي العطاش وليس تسأل من همُ ليضيء صبح في جبينك نوره ويقوم بنيان أعز وأكرمُ وتعود للشرق الممزق وحدة تجتث أركان الخلاف.. وتحسمُ وأرى نفوساً شب فيك طموحها وسما بها حب.. يجل ويعظمُ (الديوان ص 129) تصنع هذه الأبيات رؤية مستقبلية تتجاوز الزمن الراهن، ثم تطلع للقادم، وهو تطلع يبدأ بالنور ولا ينتهي بالحب، ويزجي الشاعر لأجل ذلك جملة من الدلالات المستقبلية: الفجر... يسفر المجد... تنسجه يداك وترسم طلائع... كريمة سحابة... ندية فالفجر المشرق يسفر عن ضوء يتعالق دلاليا والمجد، والطلائع تغدو كريمة، والسحابة ندية، وكلها دلالات تنم عن مستقبل مختلف كما تقول القصيدة. ويعضد ذلك كله فعل الرؤيا: (أرى) وهو فعل له دلالته العميقة في شعريتنا العربية، وفي تراثنا العربي بوجه عام، وفعل الرؤيا يرتبط بالبصيرة أو بالأحرى بالغياب والمخيلة التي تسرد ما ترى، أو بالحلم، وكلها أشياء فوق -واقعية- بمعنى سيكولوجي، تتأدى من خلال وعي الذات الشاعرة ووعي القصيدة ذاتها. إن الشاعر وهو يحيط أبيات قصيدته بفعل الرؤيا، إنما يعطيها نوعا من القداسة الشعرية إذا صح التعبير، وهي قداسة جمالية فنية، تفضي إلى قدر كبير من الصدق الفني الذي يعايش اللحظتين معا، الحاضرة: بتأملها واستنباط معانيها السطحية والعميقة، والمستقبلية بقراءة المقبل وتعيينه حيال المتلقي. تبدأ القصيدة بالنور، وهنا دلالة على هذا الضوء المشع الذي تنهض به الجامعة، ولا تنتهي بالحب فحسب في الشطر الأخير من هذه الأبيات، ومن القصيدة ككل، فهو حب سام يفضي إلى العلو، وإذا كان النور يأتي من عل، فإن ثمة توافقا بين الحب السامي وبين الحب، وهو ما يشير إليه الشاعر: وسما بها حب.. يجل ويعظم لقد اشترك النور والحب في فعلي (يجل ويعظم) وهما أجمل ما تنتجه الجامعة من دلالات، من نور الجامعة وحبها ستعود للشرق الممزق وحدته، ومن نورها أيضا ستجتث أركان الخلاف وتحسم، إن الشاعر لا يفرط هنا في حبه للجامعة، قدر ما يشير بقدر بين من المصداقية الفنية والمضمونية لهذا الدور الجامعي. وتدل قصيدة (لا يأس) على هذا الحلم بالتغيير، الذي تهبه آليات الاستقبال، ويتبدى ذلك من المقطع الأول من القصيدة: لا يأس فالدنيا تدور ما انتاب دورتها فتور يومٌ يحل كزائر عرضا يزور ويطل يوم آخر ويغيب في فلك العبور إن ضقت في يوم، وضاق بك المكان سيغيب في فلك الزمان ويجيء عند الفجر غد ويطل يوم آخر (الديوان ص 133). تتواتر في هذا المقطع آلية الاستقبال بشكل جلي، إن اليوم الجديد يمحو اليوم القديم، ثمة استبدال يحدث بين زمنين، الأول يشعر باليأس، والثاني يفضي إلى الأمل، من هنا يطلب الشاعر من الإنسان ألا ييأس، فالأيام تمر عرضا، (ويطل يوم آخر) ثم (يغيب) ثم يطل تارة أخرى. ويرتبط الزمان بالمكان هنا في هذا المشهد، فلا زمان من دون بقعة مكانية تخايله، ولا مكان من دون زمن يومئ إليه وإلى قدمه أو حداثته والضيق هنا يأتي من المكان كما يأتي من الزمان، والشاعر يريد من الإنسان أن يتجاوز ذلك كله، ولا ييأس من صروف الزمان والمكان معا، فدوماً سيأتي الفجر، دوماً سيتغير الحال: ويجيء عند الفجر غد ويطل يوم آخر الاستبدال، التحول، التغيير هي دلالات لها مغزى داخل المشهد، وهي دلالات تشير في جوهرها إلى مستقبل آخر مغاير. وتلعب شعرية الوضاءة دوراً مهماً في إبراز زمنية الاستقبال، فالوضيء يغير، ويضيف ويجدد، من هنا تحفل القصيدة بهذه الوضاءة التي يلح عليها الشاعر كفضاء دلالي آخر يوسع من النطاق الدلالي الكلي لقصيدته، ولنصغ لهذه التعبيرات التي تمرق ضمن نطاق ما يمكن تسميته ب(شعرية الوضاءة): - الأحزان يجهضها الصباح وتذيبها شمس الضحى (ص 133) - لا يعشق القمر الغروب، وإن تزاحمت النجوم لا تعرف الشمس الهروب، وإن تراكمت الغيوم (ص 134) - الفجر يولد رغم أشباح الظلام والشمس تشرق رغم اطباق القتام (ص.ص 135-136) فالصباح والشمس، والقمر والنجوم والشمس، والفجر والشمس دلالات ضوئية تنبث في ثنايا القصيدة لتعبر عن شعرية الوضاءة من جهة، وتعبر عن هذا الارتباط الدلالي بين ما هو وضيء وما وهو مستقبلي من جهة أخرى. الشاعر يرى في التحليل الأخير لهذا النص أن (اليأس انتهاء) وأن هذه الدلالات الوضيئة هي الباقية، وبالتالي على الإنسان الا يحزن فالأحزان يجهضها الصباح، والقمر لا يعشق الغروب، والشمس لا تعرف الهروب.. إنها شمس الحرية تهب على العالم العربي، ولكن بتدرج وببطء، بيد أن الفجر يولد رغم أشباح الظلام. إن النبرة المتفائلة داخل النسق النصي تعطي مغزىً مهماً للقادم والآتي، وهي نبرة ترشح بها أغلب قصائد الديوان، بل هي من الدلالات الملموسة الناجمة عن توجهات الخطاب الشعري لدى الشاعر. وعلى العكس من هذه النبرة المتفائلة، نجد أن الشاعر يتحول إلى بعد آخر لا يقيني في رؤيته للمستقبل، ويتجلّى ذلك في قصيدة (أغنية السلام) وهي أغنية تتحول إلى نغمات جارحة معذبة، تروي مأساتنا المعاصرة وهي تطل على حواف مستقبل لا يقيني، غير محدد، وغير مسمّى. يستهل الشاعر الغامدي قصيدة: (أغنية السلام) بقوله: الليل ألف علامة استفهام تنتظر الصباح قالوا: إذا جاء الصباح سيعود شيء غاب عنا.. من سنين وسيختفي هذا الأنين سيعود للسحر النسيم البكر تسكبه الغصون سيعود للسمر النشيد العذب والهمس الحنون.. أرواحنا.. كبراعم الليمون ينعشها الصباح.. أيجيء..؟ (ص 141) تدرج الدلالة الكلية للنص بدئيا في أفق الاستقبال، وهو استقبال منتظر، لكنه يقع على حواف الاحتمال قد يجيء أو لا يجيء، فالسؤال الذي ينهي به الشاعر هذا المشهد الأول من القصيدة (أيجيء؟) لا يجزم بالمجيء أو اللامجيء، إنه يترك فعل الاستقبال على حاله المضبب في المنطقة الرمادية بين نعم ولا، وبالتالي هو ينقل -بمعنى ما- حالة اللا ثقة في هذا السلام المصنوع في منطقتنا العربية، وحالة اللا أمل، انه يتجاوز هنا إلى مستقبل قلق، غير مأمون، وغير محدد أو متعين. القصيدة تأتي على غير ما ألفناه لدى الشاعر في القصائد الأخرى من التركيز على التفاؤل وتحقق الزمن المشرق في المستقبل، القصيدة هنا لا تؤكد ولا تنفي مجيء هذا الزمن الذي تحدث فيه التحولات والتغيرات، ويعزز ذلك ذكره غير مرة في القصيدة لمفردة (قالوا)، التي لا توجد مرجعية نحوية أو دلالية لها، حيث تحتمل هذه المفردة هنا القول غير اليقيني، أو قول الإشاعة غير الصادقة، وهو ما يعنيه المشهد بشكل أو بآخر عطفا على حالة اللا ثقة التي يشعر بها الناس صوب هذا السلام المصنوع. الدكتور الغامدي يلتقط هذه الحالة، ويعمقها لتصبح سؤالا حادا جارحا في متن القصيدة، وهو سؤال في الآن نفسه مبطن بقدر من السخرية والمفارقة، وتتواتر سطور المشهد لتبين ماذا قالوا، حيث يستخدم الشاعر الأفعال المضارعة المسبوقة بالسين الدالة على المستقبل: سيعود شيء.. غاب عنا.. من سنين.. وسيختفي هذا الأنين سيعود للسحر النسيم البكر تسكبه الغصون سيعود للسمر النشيد العذب والهمس الحنون يكرر الشاعر الفعل (يعود) مقرونا بالسين، إن المستقبل هنا يتحقق من خلال العودة، أي من خلال حضور الماضي، أي حضور الوجه القديم أو الصورة القديمة للشيء، لكن هذا الحضور يأتي بوصفه استعادة لقيمة، لا بوصفه تكرارا لها، سيعود الشيء بشكل جديد، الشيء الذي كانت له ألفة في الذات سيعود، الشيء الذي يشكل الهوية ويرسخ للقيم الأصيلة سيعود، هكذا تحلم الذات الشاعرة خارج نطاق اليقينية أو اللايقينية، لكنها تحلم بالعودة إلى الأصول وربطها بالمستقبل. مقابل هذه العودة، سيختفي هذا الأنين والألم، وتزدهي الصورة حين تحدث العودة، وتغدو الأرواح كبراعم الليمون التي ينعشها الصباح كما يقول الشاعر. لكن ذلك يبقى رهين الاحتمال، لا رهين التحقق حيث يواصل الشاعر في المشاهد التالية رصد هذا المستقبل القلق، معلقا إياه بالسؤال، وب(ألف علامة استفهام) ليلية تنتظر مجيء الصباح: قالوا بأن الفجر لاح وبأن هذا الرعب يوشك أن يغيب وبأن ليل قوافل الموتى سيعقبه صباح.. وبأن هذي الأرض.. مهما أدمنت شرب الدم المسفوح يوما قد تتوب.. ستعود تنبت مثلما كانت.. وتطرب للشروق وللغروب.. ( ص.ص 142-143). إن استخدام الفعل قالوا -كما ذكرت سالفا- يحتمل الشك واليقين معا، والشاعر يصدر به مشاهد القصيدة المختلفة، معنى ذلك أنه يعطي كل مشهد هذه الاحتمالية المستقبلية، ويتحدث من هذا المقام. إن الشاعر هنا ناقل للخبر خارج وعي القصيدة، وهو صائغه داخل هذا الوعي، بمعنى أن (قالوا) هنا تشير إلى غائبين، غير محددين، وبالتالي قولهم قد يحتمل الصدق وقد يحتمل الكذب في هذا السياق الشعري، ومن هنا فإن العبارات الشعرية التالية لهذا الفعل تأتي لتعبر عن هذين الاحتمالين: (الرعب يوشك أن يغيب، ليل قوافل الموتى سيعقبه صباح، الأرض تتوب، ستعود تنبت، تطرب للشروق وللغروب). إن ثمة احساسا بالتغيير يضفيه الشاعر على دلالات مشهده، ثمة توسيع للنطاق الدلالي للمشهد من (الرعب) المعنوي إلى (الدم المسفوح) الحسي، كأن التغيير سيطال الاثنين معا: المعنوي والحسي، وهو تغيير يقع في نطاق المحتمل، وفي المشهد التالي تتحدد ملامح هذا التغيير، كما نرى: قالوا: إذا جاء الصباح ستختفي كل الندوب.. ستنطفي كل الجراح.. الليل.. والأشباح.. والأحزان.. واليأس الطويل.. وقذائف الطيش البليدة.. والفجائع.. والذهول.. سيعانق الفجر السلام على المدارس.. والمتاجر.. والحقول سيذوب في السحر الندى.. وتميس في الأفق النخيل.. في الليل.. ألف علامة استفهام تنتظر الجواب أيجيء..؟ (ص.ص 143-144) يتوسع نطاق التغيير، أو بالأحرى الحلم بالتغيير في هذا المشهد بعد مجيء الصباح: (تنطفي كل الجراح: من الليل، والاشباح إلى الفجائع والذهول)، وهي مع إشارة الشاعر لها تمثل نوعا من الإدانة الشعرية للحظتي الماضي والحاضر معا، نزوعا للحظة المستقبل التي تقع في نطاق المحتمل. سيطل السلام على الحقول والمدارس والمتاجر، ستنفجر الطبيعة بتفاصيلها ما بين السحر والندى، وبين النخيل والأفق، هكذا يصور الشاعر بشكل مفارق، غير يقيني، إن عدم اليقينية هنا يؤول إلى كون ذلك لن يتحقق بين ليلة وضحاها في الأفق العربي، خاصة أن الصباح الذي سيجيء غير متعين، ولأن في الليل ألف علامة استفهام تنتظر هذا الصباح لتحاصره بالأسئلة التي لا تحد. ويظل سؤال: (أيجيء؟!) ملقيا بظلال من الشك في هذا القادم الذي يأتي ولا يأتي، حتى يؤرقنا الشاعر بهذه الإجابة المتساءلة ايضا التي لا تقطع شكا ولا يقينا:( من يدري؟): من يدري.. فالناس قد سئمت ملاحقة السراب والأرض غشاها الدم المسفوح.. واحتقن التراب.. (ص 144) وهي إجابة تدل على اليأس من التغيير، واليأس من حدوث تحولات في هذا الصباح - السلام المزعوم. إنها رؤية الشاعر التي تدين العصر، وتدين التمسك بأشياء واهية ربما لن تتحقق (فالناس قد سئمت ملاحقة السراب، والأرض غشاها الدم المسفوح) أي أنه لا مجال آخر للقمع، وبالتالي من الجلي أن يحدث هذا التغيير إلى واقع أكثر إشراقا، لكن هذا يقع كما ذكرت في نطاق المحتمل. إن الخطاب الشعري في هذه القصيدة خطاب مفتوح، على عدد من التأويلات، كل قراءة جديدة لهذا الخطاب ستمنحنا تأويلا جديدا، فالشاعر لم يحدد تماما، لم يسم، ولم يعين، لم يقل لنا بشكل يقيني ماذا سيحدث بعد: (أغنية السلام) وبالتالي لم يقدم نصا مغلقا ذا دلالة مغلقة على إجابة أو يقين أحادي. إنه رصد الواقع وقرأ المستقبل، لكنه لم يعط دلالة نهائية، وترك السؤالين الجارحين (أيجيء-من يدري؟) مدببين حيال ذهنيتنا القارئة.