الحقيقة هي امتزاج كلي وارتباط بالواقع الإنساني، الحقيقة هي ما نبحث عنه في هذا الوجود الفسيح.. هي من وجد القاضي لأجلها والمحامي ليدافع عنها، هي ما يبحث عنها أساتذة وفلاسفة السياسة والاقتصاد، الحقيقة هي من شغلت الوجود بأسره، وهي من أنهكت فكر الكاتب، وعقل المخترع، وريشة الرسام، وقلب العاشق، وذهن الطالب. الحقيقة هي من شغلت التفكير والشعور والتصور والسلوك معاً، فكل ذو قوة زائل إلا الحقيقة، لأنها قائمة على إحقاق الحق وإزهاق الباطل والزيف، فعليها يثبت الحق وتزول رواسب الشر وعليها ترتكز القيم وتتعدل الموازين وتقوم القوانين. الحقيقة هي كائن حي ضخم يحيد عنه الشر، ويغيب في حضوره الظلم، هي الأصل والفرع، هي الحارس في هذا الوجود، وهي القوة التي تطفئ جذوة النزاع والشقاق والاختلاف. فرغم الشر ورغم الطغيان ورغم الإغواء الموجود في هذه الأرض إلا أن الحقيقة حية طاهرة، لا تتزعزع ولا تفنى أو تتآكل لأن (جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة). الحقيقة لا تذوي.. وإن مرت عليها سنين عجاف، الحقيقة لا تغرق.. وإن علا بها الطوفان، الحقيقة لا تموت، لأنها تتنفس من أعماق الضمير، الحقيقة لا تفنى.. وإن اختفت أو غابت قليلاً، الحقيقة لا تجف.. لأنها نابعة من الحق الأصيل، ولأن الله عز وجل هو الحق {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ..}، وأرسى قواعد هذا الكون بالحق، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}. وهناك ثلاثة أنماط من البشر: منهم من يدعي الحقيقة وهو أبعد ما يكون عن ذلك، ومنهم من قطع العلاقة ووضع الحواجز بينه وبين الحق الساكن في ضميره، حيث يعيش صاحب هذا النوع في صدام مستمر بين المشاعر الباطنة، والتصرفات الظاهرة، فهو متيقن بالحقيقة باطنياً، ولكن تصرفه الظاهر ينفي الحقيقة حيث يشعر بعدم الوحدة والتجانس بين القوى الداخلية الروحية وبين السلوك الخارجي، ومنهم نفوس نابضة بالحق وعقول تحترم منطق الحقيقة. الحقيقة هي من يسعى إليها الجميع ولكن لا يتذوقها الجميع لأنها ذات طعم ولون ورائحة مختلفة، فقد تكون أحلى من الشهد وربما تكون أمرّ من العلقم، أتعجب من أولئك الذين يحاولون دفن الحقيقة، وهل يستطيع أحدنا أن يغطي الشمس؟ أو يغلق الأفق؟ أو يكتم أنفاس الصباح؟ والحقيقة هي من نظلمها بأفعالنا أو ندعيها بأقوالنا، فنقول مثلاً: نحن صادقون، ولكننا في نفس الوقت نمارس الكذب، ومحبون ولكننا نخون، وناجحون ونحن نفتقد الرغبة الحقيقية. فيفشل نجاحنا ونخسر من نحب، أتعلمون لماذا؟؟ لأننا لم نمارس الحقيقة في صفاتنا وسلوكنا، كثيراً ما تفشل العلاقات وتتفكك عرى الصداقات؟ أتدرون لماذا؟ لأنها تفتقد الحقيقة، الحقيقة في الصدق والإحساس، ولو كشفنا عن هذه العلاقات والصداقات لوجدناها كومة من الخواء الشعوري الذابل. وكم من صفقة تجارية خسرت لأنها اعتمدت على الدس والتدليس وإخفاء الحقائق. دعونا نتساءل قبل أن نحاسب أنفسنا: هل مارسنا الصدق الحقيقي فعلا والحب الحقيقي والعلم الحقيقي والنجاح الحقيقي والإبداع الحقيقي؟ فالحقيقة ليست متعلقة بماضٍ عشناه أو حاضر نتعايشه إنما هي متعلقة بالإنسان ذاته.. تاريخاً، وسلوكاً، وصفات، ومعاملة.. * إلى كل من افتقد الحقيقة: لا تيأس فالحقيقة تضيء وتبرق وتخفت ولكن تذكر أن ميزان الحق راجح لا يتأرجح، وللحقيقة صوت وصوت الحق لا يُكتم. همسة: (السعادة كالفراشة إذا طاردتها هربت منك، وإذا تجاهلتها رفرفت عليك).