بعد أن كتبت عنه وقلت: إنه شاعر مبدع ينبغي أن لا يبقى في الظل.. تفضَّل الشاعر الصديق محمد الحمادي - مشكوراً - فأهداني ديوانه الجديد (فلسفة الحب).. فهل للحب فلسفة يا أخ محمد؟! ما أعتقده أن للحب أسراراً.. ولو سمّى الشاعر ديوانه (أسرار الحب) لكان أفضل. ذاك أن أسرار الحب تحتاج إلى كشف.. بينما فلسفته تحتاج إلى فهم.. وما بين الكشف والفهم فارق كبير.. فالأول لا بد من التجربة للإحاطة بعالم الحب.. أما الثاني فلا يحتاج إلى تجربة وإنما يكفي الفهم، وإن ظل صاحب الفهم بعيداً عن أطياف الحب وألوانه. على أية حال نعود إلى الكتابة مرة أخرى عن الشاعر الحمادي وعن ديوانه (فلسفة الحب) الذي ضم أكثر من 40 قصيدة.. جاء أغلبها موزوناً مقفى ليس في الديوان مقدمة سوى كلمة الناشر غير أن هناك - إن جاز التعبير - (تقريظاً - للديوان من قبل الأستاذة علا الحمادي.. نتجاوزه لنقرأ قصيدة (حروف الحب) وهي أول قصائد الديوان الغزلي ذي المائة والثمانين صفحة من القطع المتوسط.. المطبوع في دار الكفاح بالدمام عام 1426ه. يقول الشاعر في حروف حبه ص 11: رأيتكِ حلماً داعب الروح بالهوى وأيقظ أشعاري وحرّك قلبيا رأيتك أحلى صورة يا حبيبتي إذا همس الصوت الجميل حبيبا وما زلت مشتاقاً ونارٌ بداخلي فلا تبخلي بالوصل يا نورَ عينيا ولا تسأليني عن بقايا من اللظى فأنت حناياي التي بين جنبيا فقولي حروف الحب لا تتروي وأربعةٌ قولي فقد ضاق كونيا تذكرنا هذه القصيدة بيائية إمام العشاق: قيس بن الملوح والتي فيها البيت الأشهر: يقولون ليلى بالعراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب المداويا غير أن شاعرنا لم يُجَنُّ بعد.. لكنه مغموس حتى رأسه بالحب. وحب شاعرنا يأتي أحياناً صريحاً واضحاً كالقصيدة المعنونة ب(التونسية).. نسبة إلى تونس - حيث خصها - أعني الفتاة التونسية - بعدة قصائد: الحب أغنية وطيف أماني والحب ينبض في جحيم العاني يا تونس الخضراء جئتكِ عاشقاً ورحلت شوقاً من لظى حرماني قد جئت أبحث عن شذا محبوبتي في أي وادٍ يا ترى تلقاني؟ قد جئت أبحث عن هواك مفتشاً هل أنتِ مصغيةٌ إلى تحناني؟ هنا الحب معذب.. قد لا يكون من طرف واحد.. لكن الشاعر يفصح عن معاناته مع هذه التونسية الشاردة.. الغائبة دوماً.. من هنا يحاول الشاعر إرضاء محبوبته أو استرضاءها فيذكِّرها بالماضي السعيد الذي عاشه الشاعر مع بنت تونس: هل تذكرين حبيبة العمر كلماتنا في السر والجهر في (تونس) كنا بمفردنا والحب أشعل في الحشا جمري وطلعت بي في قمة (المرسى) فتحركت روح الهوى العذري إلى أن يقول بعد ذلك في قصيدته الرائية: (تونس وتقاطيع حبيبتي ص 54): في قهوة (الشانزليزيه) موعدنا جاءت وشعر هائج يغري ونطقت أشعاري وقلت لها: إني أحبك يا منى عمري إني أحبك واللقا أملي والحب سيف غار في نحري ونلاحظ في هذه الأبيات.. وغيرها إصرار على الحب.. كأنه قدر الشاعر الجميل: صباح الخير من قلبي إلى الحب الذي كالمساء يرويني صباح الخير يا أملي ويا إشراقة الشمس في الأعماق تحبيني عجيب أمر هذا الحب.. إذا صار الشاعر يحييه تحية الصباح ويساويه بالأمل الذي هو سر تشبثنا بالحياة.. ولولاه أو لولاهما متنا كمداً وحزناً والمحبوبة التي يلهث وراءها الشاعر لا تتخذ اسماً معيناً ولا ملامح معينة.. بل كل النساء حبيباته.. بل المرأة وطن أو أشبه بالوطن: حبيبتي أريد أن .. أطارح الزمن أريد أن.. أحطّم الساعات أريد أن.. أكسر الصمت الذي يغتالني وأسقط الوثنْ أريد أن أمحو اللظى والهمَّ والشجن فإنني أدركتُ يا حبيبتي أنكِ لي وطنْ هل تسمحين لي إذاًَ بأن تكوني قصة بأحرفي وأن تكوني لي وطنْ والحنين أمر طبيعي لشاعر وفي.. فبعمق الوفاء للديار والإنسان يكون الحنين والاشتياق.. فإلى أي شيء يحن الشاعر؟ نترك قصيدة (حنين) لتجيبنا على سؤالنا: أحنّ إليكِ وأشتاق للحب بين الحنين وبين الحنين أحن إلى همسة العشق في شفتيكِ إلى البحر والعطر والياسمين أحن إلى دمعات العيون إذا أشرق النور في ناظريكِ وأشتاق دوماً وأعلم أني وأنتِ طريق إلى دوحة العاشقينْ تمر على القلبِ ذكرى لقانا فأذكر كم داعبتني يداكِ؟ وأذكر أنكِ حررت قلبي ومن قبل قد كان قلبي سجينْ إلى أن يعلنها بكل صراحة ويناديها: بأن (تعالي وخذي جسدي المسجى في الجحيم بعدما صارت الروح ترفرف عند الحبيبة): أنا جسدٌ في جحيم مسجّى وروحي ترفرف دوماً لديكِ تعالي خذيني فإني أحبُّك من كل قلبي وأشتاق للحب في كل حينْ ونعود إلى التعليق على الأبيات المقفاة الموزونة حيث تتضح لنا شاعرية (الحمادي) في نظمه المتّزن واختراع القافية المناسبة بكل مهارة: وميت الحزن والبلوى ورائي وعاد الحب يجري في دمائي وجفّت دمعة في العين حرّى وحار الصمت من لحني غنائي نجومٌ في مسائي قد أضاءت وأحيتْ في فؤادي كبريائي وجرحي لم يعد جرح الرزايا ففي صدري جبال من إبائي وشمسي أشرقت والوهم أغفى لأن حبيبتي أضحت هنائي فتلك حبيبتي مرآة روحي ومن قد أوقفت نزفي بكائي ولكن الأسى في البعد عنها فهل تحظى عيوني باللقاء؟ رجائي أن أراها عن قريب أي ربي فحققْ لي رجائي وإعجابنا بشاعرية الشاعر لا يمنعنا عن إبداء ملاحظة نقدية خاصة بالشطر الثاني من البيت الخامس حيث تبدو كلمة (هنائي) في النهاية غير مناسبة بل فيها شيء من الضعف والركاكة. ونونية الشاعر العظيم ابن زيدون أشهر من أن تذكر.. بيد أن الحمادي أراد معارضتها بأبيات قصيرة.. إنما فيها إيمان كبير بالحب الذي فيه نجاة الشاعر من اليأس والقنوط.. فما أعظم الحب إن كان كذلك! نبض المشاعر في الأعماق تحيينا وأحرف الحب طيف من أمانينا إن الهوى لغة في العمر خالدة ولحنه نغم يحيي قوافينا لو تدركين إذن ما الحب يا لغتي؟ الحب في دمنا.. يجري.. يغذينا لو تدركين إذن ما الحب يا لغتي؟ إن أهلكتنا الدنى.. فالحب ينجينا ليس الشعور الذي في القلب نضمره إلا محبتنا تُطوى.. وتطوينا الحب بلسمنا لو حاطنا ألمٌ يمحو بقوته أقسى مآسينا وأخيراً.. فالشاعر محمد الحمادي أحد الشعراء القلائل الذين نظَّروا على الحب ووجدوا في ظلاله النسمة الحانية والدفء الجميل ولئن استمر على هذا المنوال - إخلاصاً للحب وتبتلا في محرابه - فهو الرابح لا الخسران.. لكنه سيدفع ثمن ذلك قلقاً وسهراً واغتراباً نفسياً.. لأن من يفهم الحب قليلون واقل منهم من يتغنون بالحب ويعزفون على لحنه صباح مساء للحب ذاته.. لا يريدون به جزاء ولا شكوراً: لو تدركين الحب يا نوارتي أضنى فؤادي واستباح شبابي مهلاً فإني في غرامي تائه إني أحبك من سنا إعجابي ومع هذا.. ألمٌ هنا.. وشكاية وهنا الجراح بنارها تشقيني ذنبي غريب والأسى قيثارتي والناي قلبي والغرام جنوني (مقطعان من قصيدة رباعيات الخجل ص 47).