بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد: في حديث صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني الرئيس الأعلى لمجلس إدارة مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وفي رئاسة سموه الدورة (19) لمكتبة الملك عبد العزيز العامة خلال الأسبوع الأول من ربيع الأول، دعا سموه إلى مواجهة الفكر المنحرف ثقافياً وتربوياً وتكريس قيم الاعتدال والوسطية والتسامح، وحث العلماء وأساتذة الجامعة ورجال الفكر والثقافة على الإدلاء بآرائهم السديدة. ولعلي أبدأ حديثي في هذا الصدد من الجانب الأول، الذي نادى به صاحب السمو الملكي ولي العهد، وهو الفكر المنحرف ومواجهته ثقافياً وتربوياً، عسى الله أن يهدي قلوبنا جميعاً حتى لا تزيغ القلوب عن الحق، فيضل بنا السبيل. وأعد القارئ الكريم عبر صفحات (الجزيرة) الغراء التي تعد في طليعة الجرائد اليومية بالمملكة، والتي تعايش المشكلات المعاصرة، وتقدم للقارئ كل مستحدث في عالم المعرفة، أن أتناول موضوع الفكر المنحرف - بمشيئة الله - الذي تعاني منه مجتمعاتنا الحاضرة، عبر عدة مقالات يتمثل أولها في: الغزو الفكري.. على أساس أنه الركن الأساس وراء الفكر المنحرف، ثم بعد ذلك، أرجو أن أوضح للقارئ الكريم القيم الأخلاقية بين سلوك الاعتدال والوسطية والتسامح، من أجل محاربة الفكر المنحرف، وبذلك أرجو أن تكون مساهماتي في هذا الجانب المهم في حياتنا الاجتماعية، لها مردود بين الناشئة والشباب، عسى الله أن يهدي قلوب الذين يتبعون الهوى حتى لا يضل بهم السبيل. إن الغزو الفكري هو أساس الفكر المنحرف، وهو من الموضوعات المعقدة الشائكة التي لا تقتصر على جانب واحد من جوانب الحياة الإنسانية، إنما تمتد لشمل كل جوانب الحياة، ومن ثم يحتاج إلى العديد من الإيضاحات، وأكتفي بعرض أهم ما يتصل بهذا الموضوع الذي هو نبض الساعة؛ فالغزو الفكري هو الحرب الدائبة، في تدميرها للفكر الذي يجب أن يتسم بالاعتدال، وهي تمتد إلى مناحي الحياة الإنسانية جميعاً، فتسبق حروب السلاح وتواكبها ثم تستمر بعدها، لتكسب ما يعجز السلاح عن تحقيقه، فتثبط إرادة المهزوم وعزيمته، حتى يستكين ويزداد ضعفه، ويتشتت كيانه وبناؤه النفسي حتى يذوب ويفنى جسده وعقله في بوتقة أعدائه. وسلاح الغزو الفكري، هو الفكر الخبيث والكلام والرأي غير الصريح، والالتواء في عرض الأفكار المسمومة والنظريات والشبهات المغرضة، وتزويق المنطق وبراعة العرض وشطط الجدل ولداءة الخصومة وتحريف الكلام عن مواضعه بهدف زيغ القلوب والعقول. والغزو الفكري ليس وليد عهد معاصر، بل بدأ بمواكبة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان هناك المنافقون والمشركون واليهود، ثم تنامى الإسلام، فكثر أعداؤه من فرس وروم وغيرهم. أما المنافقون فقد كان رأيهم الأراجيف والشائعات المغرضة الكاذبة، والتسخط على كل ما لا يرضي أهواءهم، والعمل على تفريق المؤمنين، وتسريب الشبهات إلى داخل صفوف الموحدين. ونتفق على أنه كانت لهذا اللون من الحرب نتائج وغايات وآثار مدمرة، فإن الغزو الفكري أسود أخبث وأشد تنكيلاً من السيوف والقتال قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، فقد امتدت الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب، وسار نفوذ الإسلام السياسي على الفرس والروم، وودع الروم جزيرة العرب، وبقى فيها اليهود حيث فقدوا سلطانهم الروحي، ودالت دولة الفرس فخدمت نيران المجوس، وانمحت ظلمة الشرك فحقد أحبار اليهود وكهان الفرس لزوال عزتهم ومجدهم وقامت من بينهم طوائف وجمعيات تكيد للفاتحين، ولدين الفاتحين متفرقين أحياناً ومجتمعين في كثير من الأحايين. وأولى هذه الجمعيات هي التي اغتالت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم تلا ذلك الفتنة الظالمة التي قضت على عثمان وفرقت المسلمين فئتين متقاتلتين، ثم انتهت بقتل علي- رضي الله عنه -. يقول تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ} فاليهود هم جماع كل أثم وشر، من قديم الزمان وحتى الحاضر، ودأبهم التفرقة بين الناس حتى يتاح لهم العيش دون منافس. وقد كانت فارس أعظم مهد لهذه الجمعيات، ثم انتشرت خلايا وأجهزة الفرق الضالة والمارقة عن الإسلام باسم الإسلام، تجتمع معاولها على خدمة الدين الحنيف، فكانت الباطنية والقاديانية والبهائية وغيرها، تستمد العون والتأييد من أعداء الله عز وجل. ويكفي أن نسوق هنا مثالاً يوضح ما كان عليه الفكر المنحرف، ممن يدعون الإسلام ظاهراً وباطنهم فيه العذاب والشقاق لأمة الإسلام؛ فالبهائية هي المذهب الاعتقادي الذي قرره البهاء حسين علي المازندراني (1233-1309ه، 1817-1892م) والذي نادى - تعالى الله على ما يقولون- بأن الله ليست له أسماء ولا صفات ولا أفعال، وأن أسماءه وصفاته وأفعاله رموز لمظاهره من البشر، وآخرهم وأكملهم هو الذي ظهر في مؤتمر (تبرشت) ميرزا حسين المازندراني الملقب باسم بهاء الدين وهو عند أتباعه مظهر الله الأكمل، وهو الموعود ومجيئه الساعة الكبرى، وقيامه القيامة، ورسالته البعث والانتماء إلى الجنة، ومخالفته هي النار، وظهوره هو ظهور جمال الله الأبهى، ويسميه أتباعه جميعاً ربنا، رغم أنهم يعرفون قصوره وعجزه بوصفه بشراً، وعقيدتهم في النبي أو الإمام في حياته، أنه مظهر من مظاهر الله في الأرض غير المظهر الأكبر وهو بهاء الله. وانتشر المذهب في بلاد إسلامية في إيران والعراق وأمريكا وفلسطين وفي كثير من الدول الأخرى. وأبرز كتبهم (الأقدس) الذي يرونه ناسخاً للقرآن والتوراة والإنجيل، ولهم كتاب (الإيقان) وكتان الألواح، وكلها كتب محشوة بالضلالات والكفر، وقد انبرى أهل السنة وأوضحوا كل ما ورد في هذا الفكر المنحرف، بما قاله - سبحانه وتعالى - عن نفسه وأسمائه، وهو أساس التوحيد الذي ورد في دين الإسلام وأبلغ به أمة الإسلام محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما يدمي القلوب أن البهائيين تزلقوا إلى اليهود ومالأوهم على المسلمين وبشروهم بأن بيت المقدس وما حوله سيكون وطناً لهم، ونادى طاغيتهم أنه يريد أن يوحد بين المسلمين والنصارى واليهود على أصول نواميس موسى الذي يؤمنون به جميعاً، وهيهات هيهات ما يفعلون، فهم يريدون: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (8) سورة الصف. وهذا مثال صارخ للفكر المنحرف الذي يفرق ويشتت التقاء أبناء الأمة الإسلامية على كلمة التوحيد وجمع كلمة المسلمين، على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بل إن عالمنا الآن وقد تعددت الوسائط الإعلامية من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز وأقمار صناعية وإنترنت وغيرها، وأصبح العالم كقرية صغيرة، وكثرت دروب التواصل بين بني البشر، وأصبح الغث وعرض الفكر المنحرف هو السائد، انتشرت الدعوات المسمومة المارقة، ومن ثم علينا اليقظة والحذر من شراكها وحبائلها، بل علينا أن نجند أنفسنا ونتسلح بالإيمان الصادق والعلم، بما يمكننا من مقاومتها ودحرها، بل علينا أن نطيع الله والرسول وأولي الأمر منا، ونحذر من سموم الفتن ومن ظاهر الأعمال التي قد تكون وراءها السموم القاتلة التي تصب في كؤوس من العسل إلى أبناء المسلمين على اختلاف أعمارهم ونحلهم، فهي معاول هدم تحمل الدمار بين أنيابها وتتكاتف على غزو المسلمين في عقر دارهم. أسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يبصرنا بما فيه النفع لنا، وأن يهيئ لأمة المسلمين من أمرها رشداً. وإلى مقالة قادمة - بإذن الله - عن الفكر المنحرف وأسبابه الرئيسية. * أستاذ علم النفس مؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية