ومن ضمن الأمور التي تسهم وبفاعلية في نشوء الاحتقان الفكري، إن جاز التعبير، اختلال التوازن، محدثا هذا الاختلال، تعميق التصور النافذ المنبثق من رد الفعل، فيما تجنح المشاعر إلى صياغة الأزمة، وبلورتها، بل وترسيخ المعطيات المترتبة على ذلك، في سياق القبول، والتلقي، في حين أن غياب الفحص والتدقيق للمدخلات، سينعكس سلبا على المخرجات، لأنها ستكون موازية لقوة المدخلات وتأثيرها، والمشاعر بطبيعة الحال لا تتحكم في القرارات، لأنها مرتبطة في القلب والعقل معا، بيد أن دورها يتوقف على مدى التأثير على هذين الجهازين الفاعلين، والمؤثرين، واللذين ما فتئا يشكلان لغزا محيرا، وإعجازا، في خلق المولى تبارك وتعالى وهو أحسن الخالقين، ولما كانت المشاعر معبرا لتمرير التصورات على اختلاف أنماطها من حيث الإسهام في تشكيل الرؤية، فإنها في حالة عدم خضوعها لمعيار التوازن فإن الرؤية بلا ريب ستتكئ على هذا المنحى، لتأخذ بعدا استراتيجيا قد يؤثر سلبا وخصوصا، في حالة الإفراط، وفي ظل الافتقار إلى السيطرة المتقنة حيال التأثر، لا سيما فيما يتعلق بالجانب الوجداني، لأن الروح تنشد الطمأنينة، وتتوق إلى السكينة، بلوغا لاستقرارها، ويخضع اطمئنان الروح، حتما لمقياس التوافق بين صدق المعتقد وتطبيقه على أكمل وجه، بمعزل من مبالغة في أسس التحقيق والتطبيق أو تساهل مؤداه التفريط، لذلك كان ديننا الحنيف محور ارتكازه الوسطية لأنها كفيلة بتحقيق التوازن الفكري والنفسي، تلك هي حكمة بالغة نستقيها من ديننا الحنيف من خلال تحقيق التوازن لما فيه خير المسلم وصلاحه وفلاحه، ولو تدبرت كتاب الله المعجز وأحاديث سيد البشر عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، ستجد ما يشبع الروح المتعطشة لاستقرار دائم رفقا ورحمة بالعباد {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وقد يحدث للإنسان تحولات اجتماعية كانت أو اقتصادية أو فكرية، فيما يعد الأخير الأقوى، لأنه الأساس، وبناء لم يتم على أساس سليم فإنه حتما إلى السقوط أقرب، ومن هنا فإن الإنسان يمر بمراحل مختلفة وحتما يتخلل هذه المراحل متغيرات ومستجدات، فيما يكون التفاعل إزاءها مرهونا بالثبات على المبدأ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنها عملية حسابية طبقا لتجيير ما يستجد لصالحك، سواء بالأخذ به إذا كان صالحا أو تركه، إذا كان غير ذلك، بيد أن الصمود أمام المستجدات يتطلب شجاعة يقودها العقل، بتدبر بليغ، ومعاينة فاحصة، ليس في كون التسليم بأمر ما يرتبط، في الحالة الراهنة وإخضاعه لمصلحة المرحلة الوقتية وحسب، بل إنها حسابات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، هذه القاعدة الفقهية الثابتة من الأهمية بمكان وما تحتويه من معان قيمة، تؤطر الخلوص إلى قيمة الإنسان، وسبل المحافظة عليه، فهذه الأمانة عظيمة وأعظم منها من أوجبها جل في علاه، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فكان لزاما تحري الدقة سواء من خلال المحاكاة الفاعلة المتزنة مع ما يدور في النفس من خلجات أو من خلال تطويعها وترويضها لتذعن لصوت العقل، لأنها في حالة إهمال هذا الجانب فإنها قطعا ستأمر بالسوء وبالتالي تصعب السيطرة جراء الإلحاح المتواصل، والإقحام المتواتر وزجها في آتون الشبهات المنغصة للعقل والفكر معا، ويجدر التنويه إلى عامل ما برح يشكل عنصرا مؤثرا في المحاور آنفة الذكر، بل ومن شأنه تصعيد حدة التوتر طبقا لقدرته على التوغل وإسهامه المباشر كذلك في خلخلة الثقة بالنفس، ألا وهو (القلق) هذا الزائر الشرس والذي ما فتئ مصطحبا في معيته الأمراض النفسية المقلقة، وممارسا دورا لا يقل شراسة من حيث استحكام حلقة الشعور بالذنب وتضخيمه بصورة مؤذية، حينما صاغ القلق هذا التأثير السلبي وحوله إلى نظرة سوداوية قاتمة، تسوق الإحباط وتغرس اليأس، وكأن مبدأ التعويض غير وارد، وكأن الحسنات لا يذهبن السيئات ولذلك كان دعاء المؤمن الصادق (رب اجعل لي من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا) لكيلا يمسي رهنا لتفاعلاته المفتقرة إلى الإنصاف، فبات الخروج من نفق القلق المؤذي، عزيمة صادقة وثقة بالباري عز وجل وهو أرحم الراحمين، وما تلك الإضاءات المتتالية لهذا الدين العظيم، إلا نور يشع في القلوب المترعة بشؤون الحياة وشجونها، فالتمسك بحبل الله المتين، يدرأ الكدر والضيق، ويفتح آفاقا ملؤها البشر للنفس المؤمنة وهي تباشر تنفيذ أوامر خالق الكون من دعاء للمرضى ومساعدة للمنكوبين، ووصل طيب مبارك للمحتاجين، قال رسول الهدى عليه أفضل الصلاة والتسليم (أنا وكافل اليتيم كهاتين) وكف الأذى عن الأنفس المعصومة، وفي مقابل ذلك فإن الفكر حينما يجنح للتفرد، في تحليل الأمور بغية استنباط الحقائق بمعزل من الانضواء تحت لواء الإيمان الصادق، فإن هذا لا يعدو عن كونه مكابرة جوفاء وغرورا أحمق، والرد على من يألف هذا التأزم الفكري يكمن في سؤالين، فإن كانت لديه الإجابة عليهما فقد جاء بالبرهان، وإن لم يكن كذلك، فحري به ضبط عقله ونقله، وهو الذي سيقف ونحن معه أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والسؤال الأول هل يدري ماذا سيكسب غدا؟ والسؤال الثاني هل يدري بأي أرض يموت؟ قطعا الإجابة بالنفي فكان الواجب عليه إخضاع علمه القليل فيما يخدم البلاد والعباد ويرجى رحمة رب العباد، والمواءمة المتسقة مع سياقات المنطق الذي يتحدث عنه، وهو أبعد منه، وهو لن يتحمل تبعات جنوحه وشطط فكره فحسب، بل إنه سيحمل وزر كل من تأثر به جراء استمالته من خلال تسخيره لموهبته وأدواته، رهنا لإبليس اللعين، بضاعة مزجاة يحفها البؤس والشقاء {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} قال الشاعر هاذي الكتابة دين أنت غارمه كل بما سطرت يمناه مرتهن .. يتبع