تنمية الأوقاف واستثمار أصولها ضرورة لحمايتها من الاندثار وزيادة أعداد المسلمين المستفيدين من ريعها، إلا أن عمليات الاستثمار شأنها شأن أي نشاط اقتصادي لا تخلو من مخاطر، وربما عانى بعضها من مخالفات شرعية، فكيف يمكن استثمار أموال الوقف دون تعريضها للمخاطر؟ وما أفضل وسائل الاستثمار المتاحة لأموال وأصول الأوقاف؟ وهل هناك حاجة إلى استحداث أنظمة جديدة تتيح مزيداً من الفاعلية في استثمار هذه الأموال؟ طرحنا هذه التساؤلات على عدد من رجال المال والاقتصاد.. فكان هذا التحقيق.. *** في البداية يؤكد د. عبد الرحمن بن عبد الله المشيقح عضو مجلس الشورى أن هناك طرقاً عديدة مأمونة يعرفها المختصون لاستثمار أموال الوقف دون تعريضها للمخاطر فأموال الوقف مثلها مثل أموال الأيتام والقصر، والأموال بصفة عامة ينبغي أن يكون استثمارها مأموناً وذلك بإنشاء هيئة عامة للأوقاف أو صندوق للأوقاف يشرف عليه المجلس الأعلى للأوقاف، فليست الأوقاف فقط هي تلك التي تدار تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بل هناك كثير من الأوقاف المجمدة لسنوات طويلة نتيجة الخلافات، ويندر وجود أسرة لديها وقف دون مشاحنة من أحد الأقارب بسبب إدارة الوقف مما يترتب عليه تعطيل الوقف أو سوء إدارته أو الإجحاف في توزيع ريعه أو تنفيذ الوصية. فالمخاطر التي تتعرض لها أموال وأصول الأوقاف أسوأ بكثير مما سوف تتعرض له عند استثمارها. ويضيف د. المشيقح: ويمكن استثمار الأوقاف التي لدى الوزارة وكذلك أوقاف من يرغب من الناس في إدارة أوقافه والأوقاف المجمدة والمعطلة عن طريق إنشاء إدارة على شكل هيئة أو مؤسسة عامة يكون ضمن أعضاء مجلس إدارتها عدد من الأهالي ورجال الأعمال لاستثمار أموال وأصول الأوقاف في مختلف مجالات الاستثمار المأمونة داخل المملكة، فالأوقاف مع الأعمال الخيرية الأخرى تشكل قطاعاً مهماً يطلق عليه القطاع الثالث بجانب القطاعين العام والخاص فهو بالفعل قطاع كبير ينمو بالتراكم ويزداد تسارعاً مع زيادة عدد السكان. وحول أفضل وسائل استثمار أموال وأصول الوقف يقول د. المشيقح: الإدارة الحديثة المنظمة القادرة على تنويع الاستثمارات وتجنب المخاطر بالتعامل مع المكاتب الاستشارية والقانونية والمحاسبية الموثوقة هي أفضل وسيلة لاستثمار الأوقاف لأن أموال الوقف وأصوله يرغب الناس في أن تكون منظورة ومشاهدة للعيان كالعقارات والمشروعات والمصانع ووسائل النقل وليست مجرد أرقام وتقارير سنوية معرضة للتوقف في أي لحظة فالمهم أن توجد الإدارة التي تعمل على أسس صحيحة وسليمة ويقوم عليها أصحاب الكفاءة والخبرة والنزاهة والإخلاص. بعد أن أثبتت الوقائع أن الأوقاف أموال هائلة بأساليب بدائية إلا ما ندر والحاجة ماسة للخروج من التقوقع، فأموال الوقف وأصوله هي الوحيدة التي تزداد مع الزمن إذا أحسن الاستثمار فيها وتنميتها وتم ترغيب الناس في فوائد الوقف في الدنيا والآخرة وابتكار أساليب خيرية جديدة للإنفاق عليها من ريع استثمار أموال الوقف وأصوله. وفي الوقت الحاضر تنوعت وتعددت السبل واستحدثت مجالات حديثة لا تقل أهمية في الخيرية عن مصارف ريع الوقف في الماضي بل قد تزيده كبناء المستشفيات وتنفيذ الطرق والتعليم والتدريب والبحث العلمي ونحن بحاجة ماسة إلى استحداث أنظمة تتيح مزيداً من الفاعلية والمرونة والتشجيع على استثمار هذه الأموال والأصول الكثيرة جداً التي يمكن أن تتيح فرص عمل كثيرة للمواطنين وتساعد على القضاء على الفقر في المجتمع السعودي كما تحفز أصحاب رؤوس الأموال على وقف جزء من أموالهم في حياتهم وبعد مماتهم عندما يجدون الوضوح والطمأنينة والفوائد الدنيوية والأخروية. وحبذا لو رافق هذا إيجاد نظام جديد يتيح للإنسان أن يكتب وصيته ويحفظها لدى هذه الهيئة المقترحة للاستثمار في الأوقاف، وربما وجد قسماً لكتابة الوصايا يتجه إليه الناس ذكوراً وإناثاً ليوجههم في كتابة الوصية حسب الأصول الشرعية وحفظ الأصل لديها. -*-*-*-*- استثمار أموال الوقف -*-*-*-*- أما د. محمد بن حمد القنيبط عضو مجلس الشورى فيقول: لا بد من أن نستفيد من التجارب الناجحة لبعض الدول في استثمار أموال الأوقاف دون تعريضها للمخاطر، وجميع أموال الأوقاف في العالم تستثمر في قنوات منخفضة المخاطر جداً مثل السندات الحكومية، وأسهم الشركات العملاقة وأحياناً العقارات ذات العائد المضمون. كما أن جميع الأوقاف في العالم المتقدم تدار من قبل مديري خزانة مستقلين أو تابعين لبنوك عملاقة أو مؤسسات مالية مشهورة جداً، وذلك لتقليل المخاطر. وحول وجود حاجة إلى استحداث أنظمة تتيح مزيداً من الفاعلية في استثمار أموال الوقف يضيف د. القنيبط: أهم الأنظمة هي تفعيل آليات المساءلة للقائمين على إدارة هذه الأموال، من خلال أنظمة صارمة تعاقب المخالف وفي نفس الوقت تكافئ الناجح حيث يتمتع مديرو الأوقاف في الدول المتقدمة بمزايا مالية مغرية جداً، يعتمد بعضها على نسب من مقدار الأرباح التي يحققها استثمار أموال الوقف. -*-*-*-*- اهتمام الاقتصاديين -*-*-*-*- من جانبه يقول د. زيد بن محمد الرماني المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الوقف في ذاته منهج استثماري خيري طويل الأجل يمتد نفعه إلى أجيال متعاقبة، يحافظ على المال ويوجهه للنفع العام، ويحقق مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع. وتزداد أهمية الوقف الاقتصادي في كونه يستهدف أولاً تنمية الموارد البشرية وتلبية احتياجات الأفراد والمنتفعين في الحاضر والمستقبل مع العناية بالانتفاع من هذه الأجيال في عملية التنمية. ويتمثل أثر الوقف على الاقتصاد في جوانب إيجابية كبيرة وذلك بإسهامه في تكوين رأس المال البشري وتنميته وكذلك في المساعدة في تأسيس البنية التحتية ورأس المال الاجتماعي وإتاحة الفرص لتشغيل العمالة والتقليل من البطالة والمساهمة في زيادة الحراك التجاري للمجتمع. ولذا فقد سارعت بعض الدول العربية إلى إنشاء عدد من الصناديق الوقفية على سبيل المثال: الصندوق الوقفي للتعاون الإسلامي، والصندوق الوقفي للتنمية الصحية والصندوق الوقفي للتنمية العلمية والصندوق الوقفي للمحافظة على البيئة والصندوق الوقفي للتنمية المجتمعية. ومزية هذه الصناديق ومثيلاتها تبرز فيما تحدثه من سهولة ويسر في الوقف وإجراءاته إلى جانب تمكين الفرد المسلم مهما قل حجم المال الموقوف لديه من المشاركة وتمكن من ارتياد مجالات استثمارية ضخمة، مما يفيد في دعم الاقتصاد وتعزيزه. ويضيف د. الرماني ان الاهتمام بالوقف عند كثير من الاقتصاديين له اعتبارات عديدة يمكن إبراز أهمها فيما يلي: أولاً: ان مفهوم استثمار الوقف أصبح من المفاهيم الاقتصادية التي بدأ يتسع انتشارها على نطاق كبير في المجتمعات الإسلامية. ويلقى قبولاً واسعاً لدى الباحثين في الاقتصاد الاسلامي وكذلك المتخصصين بشؤون الاوقاف، إضافة إلى حرص القائمين على صناديق وبنوك التنمية في العالم الإسلامي. ثانياً: ان صفة الدوام هي أهم ما يتميز به الوقف كأصل استثماري مستديم، ولهذا يحقق الوقف مفهوم التنمية المستدامة. ثالثاً: اعتبار الوقف دعامة اقتصادية وسياجاً واقياً للفقراء والأيتام والمحتاجين الذين تعصف بهم التقلبات الاقتصادية. وهنا نشير إلى أبرز شروط نهضة الوقف في مجتمعاتنا المعاصرة لإحياء سنته. 1- ضرورة حماية أموال الأوقاف الموجودة والمحافظة عليها من الضياع والتعطيل وحفظ سجلاتها. 2- إعادة النظر بإدارة أملاك الأوقاف وبخاصة الأوقاف الاستثمارية. 3- إيجاد القنوات المناسبة التي تشجع على قيام أوقاف جديدة وتقديم المشروعات الوقفية للمحسنين. 4- وضع الخطط اللازمة لاستثمار وتنمية الأملاك الموجودة للأوقاف. 5- ضرورة تبني مبدأ (المخصص التنموي) في جميع المشروعات الوقفية الجديدة. وهنا يمكن أن نتساءل عن مدى إمكانية مساهمة القطاع الخاص في الأعمال الوقفية فبإمكان القطاع الخاص المساهمة في دعم الوقف الخيري عبر وسيلتين مهمتين: الأولى: المساهمة المباشرة في أعمال الوقف الخيري. ويتم ذلك من خلال إنشاء صناديق استثمارية في الشركات الكبرى لدعم الوقف الخيري باقتطاع نسبة من الأرباح السنوية وإيداعها تلك الصناديق التي يتم فيها استثمار الأصول بالأشكال الاقتصادية كافة على أن يعود عائدها الربحي السنوي للأوقاف الخيرية والثانية: حفز القطاع الخاص للمشاركة في الاستثمار في المشروعات التي تدعم الوقف الخيري ويشمل ذلك تمويل مشروعات من شأنها أن تنعكس على تطوير أداء الأوقاف الخيرية. إلا أن البحث في استثمار أموال الأوقاف يتطلب مزيداً من الدراسات حول: هل يتم استثمار الوقف في سوق تسوده المنافسة أو عدم المنافسة؟ هل يعطى المستثمر الفرصة الكافية للقيام بهذا الاستثمار؟ وما مدى قدرة المنتفعين من استثمار الوقف على إشعار المسؤولين بالقصور في استفادتهم من عائدات الاستثمار؟ -*-*-*-*- تمويل المشروعات -*-*-*-*- ويرى د. محمد يحيى اليماني الأستاذ المساعد بقسم الاقتصاد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الوقف إحدى وسائل تمويل المشروعات ذات النفع العام في الإسلام، وقد استخدمه المسلمون لتمويل الإنفاق على مشروعات حيوية مثل الإنفاق على الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير المياه وبناء المساجد وصيانتها وشق الطرق وإصلاحها وكفالة الأيتام ورعاية الأرامل والمعوزين. ولا يكاد يوجد باب من أبواب النفع العام إلا وللوقف إسهام في تمويله والإنفاق عليه وهذا الدور مستمر في وقتنا الحاضر، إذ لا يمكن تجاهل أثره في حل كثير من مشكلات قصور الإنفاق العام. يدعم ذلك اتساع نطاق مصارف الوقف وتمتع الواقف بحرية كاملة في توجيهه نحو ما يراه مناسباً لحاجة الناس، ووجود القواعد التي تسمح بإعادة توجيهه متى ظهرت حاجة لذلك، وتحقيق الاستخدام الأمثل لهذا المصدر التمويلي الضخم يستلزم قدراً من التفكير الإبداعي في كيفية تخصيصه وتوجيهه وإدارته واستثماره بما يناسب واقع الحال وظروف المستفيدين والفئات المستهدفة به. ويعزز هذا المفهوم الاتجاهات الحديثة في التعامل مع المشروعات والبرامج الخيرية ومن ضمنها الوقف، والتي أصبحت تدار وتوجه وفقاً لمعايير واعتبارات اقتصادية واجتماعية تهدف إلى تحقيق أفضل استخدام والحصول على أكبر استفادة ممكنة، وأصبحت بالفعل تشكل قطاعاً جديداً إلى جانب القطاع الحكومي والقطاع الخاص يعرف بالقطاع الثالث، الذي يمكن تلخيص أهدافه في توفير مجموعة من السلع والخدمات التي يحتاجها المجتمع بشكل عام، وبعض شرائحه بشكل خاص على نحو لا يهدف إلى تحقيق الربح، ويمول بشكل رئيس عن طريق التبرعات والهبات ومصادر تمويلية أخرى ذات صبغة تطوعية في معظمها. ويضيف د. اليماني: وقد تزايدت الحاجة إلى وجود هذا القطاع وبشكل فاعل ومؤثر مع تراجع دور الحكومات في النشاط الاقتصادي وعدم قدرتها على توفير الخدمات العامة بالكميات والنوعيات المطلوبة، ومن الطبيعي بالنسبة لهذا القطاع الذي يعول عليه كثيراً أن يكون بحاجة إلى منظومة من الأنظمة والإجراءات والتدابير والمعايير تضمن حسن إدارته وترتيب أولويات الإنفاق وتوجهها نحو الاستخدامات الأكثر إلحاحاً، علاوة على مراقبتها لعملية تنمية التبرعات وتوفيرها للحوافز المساعدة على تدفق المزيد منها. ولتحقيق الأهداف المرجوة من هذه الأنظمة فإنه لا بد من توافر الآليات والمؤسسات الكفيلة بتحويل هذه الأنظمة إلى واقع ملموس يشعر به المتبرع والمستفيد. ولا يتم ذلك إلا بنقل نشاط الوقف من كونه تصرفات فردية محكوم بقرارات فردية في الغالب الأعم إلى نشاط مؤسساتي محكومة بلوائح وأنظمة ويدار بمهنية وحرفية تتناسب وأهميته. وفي مجال الأوقاف تعد الشفافية العالية والرقابة الدقيقة أمرين ضروريين لسير العمل وبلوغ الأهداف وبث الثقة المبنية على المعايير والأسس الموضوعية وليس على الاعتبارات الشخصية إذ إن الأخيرة لا تنسجم تماماً مع فلسفة العمل المؤسساتي الذي يرتكز على اعتبارات موضوعية تتيح له أسباب الاستمرار والاستقرار وتترجم الشفافية والرقابة في أمور منها الإفصاح بشكل دوري ومنتظم عن عمليات مؤسسات الوقف وعن حساباتها وعن أية مخالفات ومحاسبة المتسببين بدون أن يخل ذلك بحق الأطراف ذات العلاقة في المساءلة والمحاسبة. على أن هذا لا يعني خضوع هذه المؤسسات لجهة حكومية ما بل إن هذا يتنافى مع روح نظام الوقف في الفقه الإسلامي ومع التطورات المعاصرة في مجال الأعمال التطوعية والخيرية ذلك لأن لأصحاب الأوقاف ومن ينصب ناظراً عليها الحق في التصرف فيها بما يرونه مناسباً لتحقيق الهدف الذي من أجله أوقفت وبما يتفق مع القواعد والأسس الشرعية الحاكمة لهذا الجانب. ويستطرد د. اليماني: وحتى تكتسب الاستفادة من الأوقاف صفة الديمومة والاستمرارية فربما كان من المناسب استثمارها بطريقة توفر مصدر دخل دائماً ينفق منه على المستفيدين والجهات المستفيدة ويتأتى ذلك بعدة طرق لعل منها بناء محافظ استثمارية تختلف تركيبتها حسب طبيعة المال الموقوف والهدف منه، ولذا فإنها تصمم من حيث درجة المخاطرة وحجم العائد بصيغة تسمح بالحصول على أفضل العوائد الممكنة مع تدنية اثر التقلبات الحادة عليها آخذاً في الاعتبار أن من الأولويات المحافظة على الأصل حتى لا يفقد وتضيع بالتالي منافعه على الفئة المستهدفة بالوقف. وتشمل العوائد التي يسعى إلى الحصول عليها من استثمار الأوقاف مجموعة من الاعتبارات الاجتماعية التي هي من صميم أهداف الوقف.. وينبني على ذلك أن تستثمر أموال الوقف في استثمارات لها مردودها الاقتصادي والاجتماعي الحقيقي والابتعاد قدر ما أمكن عن الاستثمارات العقيمة ذلك أن النوع الأول علاوة على أنه يعمل على تنمية أموال الوقف وزيادتها فإنه يضيف سلعاً وخدمات جديدة إلى الاقتصاد المحلي ويوفر فرص عمل للعاطلين ويسهم في زيادة الدخول والارتقاء بمستويات المعيشة والتدريب والتأهيل لعنصر العمل المحلي وفي زيادة الصادرات وخفض الواردات من سلع أساسية وفي هذا كله تحقيق لأهداف الوقف الأصلية بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي جميع الأحوال فإنه لا يمكن إغفال الاعتبارات والضوابط الشرعية عند الحديث عن استثمار أموال الوقف سواء من حيث المبدأ ذاته أو من حيث تحديد نوعية الاستثمارات والمفاضلة بين البدائل الاستثمارية المتاحة والمعايير المتبعة في ذلك. -*-*-*-*- تنمية موارد الأوقاف -*-*-*-*- من جانبه يقول د. عبد العزيز إسماعيل داغستاني رئيس دار الدراسات الاقتصادية بالرياض: الوقف سنة حميدة وضع لها الإسلام ضوابط تحكم من خلالها عملية إنفاق موارده على أعمال البر والخير وتنمية المجتمع. وكما يهدف الواقف من الوقف إلى تحقيق البر والخير في المجتمع، يحق له في ذلك وضع ضوابط للاستفادة من وقفه، فإن على ولي هذا الوقف فرداً أو مجموعة أو هيئة أو حكومة أن يكون حريصاً على هذا الوقف والحرص له أوجه عدة، بعضها يرتبط بإدارة الوقف والبعض الآخر وهو الأهم يرتبط بتنمية الوقف التي تتطلب معرفة متخصصة بأوجه الاستثمار وأحوال السوق، ويزداد هذا الأمر أهمية بتعاظم حجم الأوقاف وارتفاع إيراداتها وتراكم أموالها، وهو الأمر الذي يتطلب بالضرورة إنشاء هيئة استثمار مستقلة تكون مسؤولة عن إدارة هذه الأموال وتوجيهها الوجهة الاستثمارية المثلى التي تحقق العائد الأفضل وتستطيع أن تتعامل مع ما تتعرض له الأنشطة الاستثمارية في السوق عادة من صعود وهبوط بسبب المتغيرات والأحداث التي يتعرض لها الاقتصاد ولأسباب محلية أو إقليمية أو دولية. ويضيف د. داغستاني: وتحديد أوجه الاستثمار المثلى لأموال الأوقاف يحتاج إلى إعداد دراسة متخصصة تأخذ بعين الاعتبار المحددات الشرعية للأوقاف وتضع على أساسها بدائل استثمارية مجدية تهدف إلى تحقيق هدف إنماء الأموال في الأجل الطويل، وستؤدي هذه المهمة في نهاية الأمر إلى تعدد أوجه إنفاق الموارد المالية للأوقاف وشموليتها لكافة أعمال البر والخير وتنمية المجتمع. ولهذا فإن هيئة الاستثمار المستقلة المقترحة لا تحتاج إلى إجراءات روتينية معقدة أو أنظمة جديدة، بل عليها أن تحتكم إلى المحددات الشرعية للأوقاف ثم يطلق لها الأمر لاتخاذ قرارات الاستثمار المناسبة وفق رؤية وخطة استراتيجية واضحة يسهم في وضعها وتنفيذها خبراء متخصصون في علم الاقتصاد ولهم دراية وفهم لأوجه الاستثمار وقنواته المتعددة بحيث يمكنهم تنويع قنوات الاستثمار للحد من تأثر استثمارات الأوقاف بالتقلبات الاقتصادية المعتادة. -*-*-*-*- أفضل وسائل الاستثمار -*-*-*-*- من ناحيته يؤكد الأستاذ سليمان بن صالح الطفيل.. الاختصاصي الاقتصادي بوزارة المالية ان الاستثمار هو الإنفاق الرأسمالي أو الجاري لغرض الحصول على العائد المستهدف وهو الأسلوب الاقتصادي لتنمية رأس المال والمحافظة عليه من الاستهلاك، واستثمار أموال وأصول الوقف دون تعريضها للمخاطر يخالف العرف الاقتصادي، لأنه لا يوجد بأي حال من الأحوال استثمار بدون مخاطرة، إلا أن درجة المخاطرة تختلف من أسلوب استثماري إلى آخر، وكلما ارتفعت درجة المخاطرة كلما ارتفعت نسبة العائد المتوقع على الاستثمار، كما تختلف مدة الاستثمار (قصير الأجل، متوسط الأجل، طويل الأجل)، وكلما زادت المدة قلت نسبة مخاطر الاستثمار، لهذا كلما زادت مدة الاستثمار في أموال الأوقاف كان ذلك أحفظ لها، حتى لو كانت الأرباح أقل، لأن نسبة المخاطرة تقل بشكل كبير خلال هذه المدة، ولا يعني ذلك تركيز جميع أموال الأوقاف في هذا المجال، حيث تظهر بين حين وآخر فرص استثمارية جيدة ونسبة الربحية فيها عالية جداً، وتتطلب المبادرة إلى اغتنامها والاستثمار فيها، وهذا يتطلب حنكة ومهارة وخبرة عالية من القائمين على هذا النوع من الاستثمارات. ومن الأشياء التي لا بد من الأخذ بها لتقليل نسبة المخاطرة في أموال الوقف تنويع الاستثمارات بشكل يتيح استمرارية العائد المتوقع منها، خاصة وان المجالات الاقتصادية عموماً تمر بدورات اقتصادية وعمليات مد وجزر، مما يستدعي التنبه لحركة الاقتصاد والتغيرات التي تطرأ على الساحة الاقتصادية المحلية والإقليمية والعالمية. وحول أفضل وسائل استثمار أموال وأصول الوقف يقول الطفيل: في تصوري الشخصي يعد الاستثمار في المجال العقاري أكثر المجالات فائدة لاستثمار أموال وأصول الأوقاف، خاصة في مجال شراء وتطوير الأراضي الخام، وبناء المجمعات التجارية والسكنية والفلل الميسرة، وهو ما يخدم قضايا التنمية في المملكة ويصب في مصلحة الوطن والمواطن كما تحفظ أموال الأوقاف من الضياع وتنميها وبخاصة في هذه السنوات والسنوات القادمة التي تشهدها المملكة، حيث النمو المطرد في أعداد السكان الذين يبحثون عن أماكن ميسرة للسكن، وذلك وفق معايير استثمارية عالية. كذلك الاستثمار في مجال التعليم والتدريب والصحة وذلك ببناء المجمعات التعليمية والتدريبية والصحية وتأجيرها بعقود طويلة الأجل. ويضيف الأستاذ الطفيل أن نظام الأوقاف المعمول به في المملكة خاصة فيما يتعلق بمجال الاستثمار الوقفي يظل بحاجة إلى تطوير ونقلة قوية حسية ونوعية فالمملكة بفضل الله تعالى تمتلك أكبر ثروة وقفية في العالم الإسلامي، ولديها الكثير من الأصول الوقفية شبه المعطلة، وتنمية هذه الأصول واستثمارها بشكل قوي وفاعل يحتاج إلى مضاعفة الجهد وتوظيف الخبرات وتفعيل أنظمة الحاسب الآلي والتقنية، وهناك اهتمامات كبيرة الآن بإيجاد صناديق وقفية متنوعة ترعى هذه الأوقاف وتعمل على تنميتها والحفاظ عليها، إلا أنها ما زالت في طور الدراسة والبحث، ولهذا ولغرض تفعيل أنظمة الوقف لا بد من تطوير الأنظمة الإدارية لإنهاء إجراءات الوثائق الوقفية بشكل آلي وسريع، كذلك تطوير الأنظمة القضائية والمحاكم التي تعنى بشؤون الأوقاف وإنهاء المشاكل المتعلقة بها وتوظيف أنظمة الحاسب الآلي ونظام الربط الآلي بين الفروع الإدارية للأوقاف بالوزارة مباشرة لمتابعة الأوقاف وحصرها بشكل دقيق وسريع، مع تخصيص ندوات وورش عمل تعنى بمواضيع استثمار الأوقاف وتنميتها، وعمل دورات مستمرة لنظار الوقف والمهتمين بالأوقاف لإطلاعهم على الأنظمة والمستجدات المرتبطة بالأوقاف وكيفية استثمارها. ولا مانع أن تقوم الوزارة بالتعاقد مع شركات استثمارية متخصصة لاستثمار جزء من أموال الأوقاف بشكل يفيد أموال الوقف والمستفيدين من هذه الاستثمارات، وبما يخدم الاقتصاد الوطني. ويمكن إنشاء صندوق وقفي خاص باستثمار أموال الوقف على غرار الصندوق المئوي وصندوق الموارد البشرية وغيرها من الصناديق ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية. -*-*-*-*- سمات نظام الوقف -*-*-*-*- أما الكاتبة والباحثة لبنى وجدي الطحلاوي، فتقول: يعتبر نظام الوقف من أبرز سمات المجتمع الإسلامي.. يساهم في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي. كما يحافظ على الأموال وينميها من أجل استمرارية الاستفادة منها وفقاً لمقاصد الواقف الواردة في حجة الوقف. فالوقف سنة من سنن الإسلام للإنفاق على أعمال البر والخير، وتنمية الأوقاف واستثمار أصولها من شأنه أن يساهم في زيارة أعداد المسلمين المستفيدين منها ولقد استحدث أساتذة الاقتصاد الإسلامي صيغاً جديدة لاستثمار أموال الوقف لم تكن موجودة في صدر الدولة الإسلامية مثل المشاركة المنتهية بالتمليك، والإجازة المنتهية بالتمليك، والاستصناع الموازي، والمساهمات في رؤوس أموال الشركات، الأسهم والصكوك وسندات المقارضة، وكذلك الاستثمار لدى المؤسسة المالية الإسلامية مثل: المصارف الإسلامية ومؤسسات الاستثمار الإسلامي، وصناديق الاستثمار الإسلامي. ويحكم استثمار أموال الوقف في الإسلام مجموعة من الضوابط الشرعية المستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية التي تمثل المرجعية الشرعية للقرارات الاستثمارية وفق ما أجازته مجامع الفقه الإسلامي وهي بمثابة دليل شرعي لتكون مرشداً في التطبيق العملي، ومن أهم تلك القرارات ذات الطابع الاستثماري: قرارات اختيار مجال وصيغ الاستثمار بصفة عامة، وقرارات استبدال أموال الوقف، وقرارات استثمار عوائد أموال الوقف، وقرارات المفاضلة بين الصيانة والاستبدال، فأموال الوقف لها سمات خاصة تتطلب أسساً ونظماً ووسائل معينة للتخطيط والرقابة وتقويم الأداء واتخاذ القرارات الاستثمارية ومن أهم سماته: 1- تنوع أموال الوقف: ولقد قسمها الفقهاء إلى ثلاث مجموعات (الأموال الثابتة) و(الأموال المنقولة) و(الأموال النقدية وما في حكمها). 2- وقف أصل المال وتسييل العائد والغلة. 3- عدم جواز نقل الملكية إلا في حالات الاستبدال إذا اقتضت الضرورة الشرعية ذلك. 4- تقليل المخاطر الاستثمارية. 5- تعرض بعض هذه الأموال للهلاك ونفصان القوة الاقتصادية لها إما بسبب الاستخدام أو التشغيل أو التقادم. 6- إعفاء عوائد استثمارات الوقف من الضرائب. كما لاستثمار أموال الوقف ضوابط شرعية عامة تتلخص في الآتي: 1- أساس المشروعية: أن تكون عمليات استثمار أموال الوقف مطابقة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية التي تعتبر المرجعية الأولى في هذا النشاط. 2- أساس الطيبات: ويقصد به أن توجه أموال الوقف نحو المشروعات الاستثمارية التي تعمل في مجال الطيبات وتجنب مجالات الاستثمار في الخبائث لأن الوقف عبادة ويجب أن تكون طيبة (فالله طيب لا يقبل إلا طيباً) ولا تقبل صدقة من غلول. 3- أساس الأولويات الإسلامية: ويقصد به ترتيب المشروعات الاستثمارية المراد تمويلها من أموال الوقف وفقاً مسلم الأولويات الإسلامية (الضروريات - الحاجيات - فالتحسينات) وذلك حسب احتياجات المجتمع الإسلامي. 4- أساس التنمية الإقليمية: ويقصد به أن توجه الأموال للمشروعات الإقليمية البيئية المحيطة بالمؤسسة الوقفية ثم الأقرب فالأقرب، ولا يجوز توجيهها إلى الدول الأجنبية والوطن الإسلامي في حاجة إليها. 5- أساس تحقيق النفع الأكبر للجهات الموقوف عليهم ولا سيما الطبقات الفقيرة منهم: ويقصد به أن يوجه جزء من الاستثمارات نحو المشروعات التي تحقق نفعاً للطبقة الفقيرة وإيجاد فرص عمل لأبنائها بما يحقق التنمية الاجتماعية، لأن ذلك من مقاصد الوقف الخيرية والاجتماعية. 6- أساس تحقيق العائد الاقتصادي المرضي لينفق منه على الجهات الموقوف عليها. 7- أساس المحافظة على الأموال وتنميتها: يقصد به عدم تعريض الأموال الوقفية لدرجة عالية من المخاطر والحصول على الضمانات اللازمة المشروعة للتقليل من تلك المخاطر، كما يجب تجنب اكتناز الأموال لأن ذلك مخالف لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية. 8- أساس التوازن: ويقصد بذلك تحقيق التوازن من حيث الآجال والصيغ والأنشطة والمجالات لتقليل المخاطر وزيادة العوائد، فلا يجوز التركيز على منطقة أو مدينة وحرمان أخرى، أو التركيز على الاستثمارات القصيرة الأجل وإهمال المتوسطة والطويلة، أو التركيز على صيغة تمويلية دون الصيغ الأخرى. 9- تجنب الاستثمار في دول معادية ومحاربة للإسلام والمسلمين: قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (9)سورة الممتحنة. 10- توثيق العقود ويقصد بذلك أن يعلم كل طرف من أطراف العملية الاستثمارية، مقدار ما سوف يحصل عليه من عائد أو كسب، ومقدار ما سوف يتحمل من خسارة إذا حدثت، وأن يكتب ذلك في عقود موثقة حتى لا يحدث جهالة أو شك أو ريبة أو نزاع. 11- المتابعة والمراقبة وتقييم الأداء: ويقصد بذلك أن يقوم المسؤول عن استثمار المال سواء أكان ناظراً أو مديراً أو مؤسسة أو هيئة أو أي صفة أخرى بمتابعة عمليات الاستثمار للاطمئنان على أنها تسير وفقاً للخطط والسياسات والبرامج المحددة سابقاً، وهذا يدخل في نطاق المحافظة على الاستثمارات وتنميتها بالحق. وتضيف الأستاذة لبنى الطحلاوي أن هناك معايير لاستثمار الوقف أهمها: 1- معيار ثبات الملكية. 2- معيار الأمن النسبي. 3- معيار تحقيق عائد مستقر. 4- معيار المرونة في تغير مجال وصيغة الاستثمار (سرعة الاستجابة للمتغيرات). 5- معيار التوازن بين العائد الاجتماعي والعائد الاقتصادي. 6- معيار التوازن بين مصالح أجيال المستفيدين من منافع وغلات وعوائد الوقف. 7- معيار الاحتفاظ برصيد من السيولة بدون استثمار. 8- معيار ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا اقتضت الضرورة ذلك. وعلى ضوء هذه المعايير هناك مجالات شتى لاستثمار أموال الوقف، يختار من بينها حسب طبيعة المال الموجه للاستثمار وحسب الظروف والأحوال السائدة وقت اتخاذ القرار الاستثماري في ضوء الضوابط الشرعية والمعايير الاستثمارية السابقة الذكر، ومن هذه المجالات ما يلي: الاستثمار العقاري: ويدخل في نطاق ذلك على سبيل المثال: شراء العقارات وتأجيرها ليستفيد الناس من عوائدها، تعمير وصيانة وتجديد العقارات القديمة التي اشرفت على الهلاك - استبدال العقارات القديمة بأخرى جديدة - إنشاء مبان على أراضي الوقف بنظام الاستصناع أو المشاركة أو المشاركة المنتهية بالتمليك والحكر أو أي صيغة من صيغ الاستثمار. ثانياً: الاستثمار في إنشاء المشروعات الإنتاجية: المهنية والحرفية الصغيرة التي تعمل في مجال الضروريات والحاجيات بما يحقق أكبر نفع ممكن للموقوف عليهم، ويدخل في نطاق ذلك، المشروعات الحرفية الصغيرة والمشروعات المهنية الصغيرة، ومشروعات تنمية موارد الأسرة الفقيرة. ثالثاً: الاستثمار في المشروعات الخدمية: التعليمية والطبية والاجتماعية مثل مكاتب تحفيظ القرآن - المعاهد الدينية والمدارس الإسلامية والمستوصفات - المراكز الصحية الشعبية وما في حكم ذلك. رابعاً: الاستثمار في الأوراق المالية: للحصول على عوائد حلال مستقرة نسبياً وفق ضوابط وشروط شرعية سبق ذكرها، مثل الأسهم العادية لشركات مستقرة تعمل في مجالات الحلال الطيب ذات مخاطر قليلة، مثل الصكوك الإسلامية الصادرة عن المؤسسات المالية الإسلامية - سندات المشاركة في الربح والخسارة ذات طبيعة آمنة ومستقرة - صكوك صناديق الاستثمار الإسلامية - سندات صناديق الوقف في البلاد الشقيقة - سندات المقارضة التي تصدرها المؤسسات المالية الإسلامية. خامساً: الاستثمار في المؤسسات المالية الإسلامية: مثل دفاتر التوفير الاستثماري تحت الطلب - الودائع الاستثمارية لأجل الشهادات الاستثمارية ذات الأجل المحدد المطلق - الشهادات الاستثمارية ذات الأجل المحدد المقيد - وما في حكم ذلك من المستجدات الجائزة شرعاً. سادساً: الاستثمار في الأنشطة الزراعية: ومنها على سبيل المثال، تأجير الأراضي الزراعية الموقوفة - المشاركة في استغلال بعض الأراضي الزراعية الموقوفة - المساقاة في استغلال بعض الأراضي الزراعية الموقوفة - المغارسة في استغلال بعض الأراضي الزراعية الموقوفة.