يعتبر التعصب أحد الظواهر الاجتماعية في عصرنا الحاضر وقد عرفه بعض علماء النفس بأنه اتجاه سلبي ليس له أي تبرير نحو جماعة معينة، وينبني هذا الاتجاه على بعض الاعتقادات السلبية والمشاعر العدائية التي تواجهه فضلاً عن ميله إلى التصرف نحو تلك الجماعة وأعضائها بطريقة عشوائية. وعلى الرغم من أن التعصب ظاهرة معروفة في كافة المجتمعات القديمة إلا أنه قد تزايدت وتعددت أبعاده وآثاره في الوقت الحاضر، وهذا يرجع إلى مجموعة هائلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تتابعت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث ظهر العديد من الاكتشافات العلمية والتكنولوجية التي أذهلت الإنسان، فتقبلها البعض ورفضها البعض الآخر، واعتبر أن فيها مساساً بما يعتقده وتأثيراً على المكانة الاجتماعية التي تمتع بها في مجتمعه، هذا فضلاً عن ظهور تيارات فكرية متعددة واكبت هذا التطور وصاحبت الحروب التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين والتي تمثل أبرزها في الحربين العالميتين وما تركتاه من آثار مادية مدمرة وآثار فكرية مؤثرة، إذ ظهرت الحركات التحررية ضد الاستعمار، وشوهد الصراع على أشده في المجال الاقتصادي بين المذاهب الاشتراكية والرأسمالية، وظهرت التحالفات العسكرية ذات الأهداف المالية والمدمرة التي ترتكز على إهدار القيم الدينية والأخلاقية، بل بدأت الدول في ظل الحرب الباردة تتجه إلى إنشاء التكتلات الإقليمية التي تنادي بمبادئ انفرادية، وكان الصراع على أشده في أوروبا بين الكنيسة والمذاهب العقلانية التي نادت بالتحرر من القيم الأخلاقية من مذاهب الوجودية وآراء فرويد وكارل ماركس وغيرهما، وفي ظل هذه الفوضى الأخلاقية ظهرت تيارات في ظاهرها معتدلة تنادي بحقوق الإنسان وحماية حقوق الفرد وحريته ولكنها وصلت في بعض جوانبها إلى المناداة بحرية الفكر وحرية القول بلا حدود أو ضوابط، بل لقد نادت بحرية العقيدة الدينية وحق الإنسان في تغيير معتقداته الدينية وفي أن يصبح بدون عقيدة، ولهذا بدت صورة الغرب لدى بعض الشرقيين الذين لم يهتدوا بعد إلى هوية ثابتة ومحددة لهم وكأنها صورة مضيئة فاعتقدوا أنه المنقذ للعالم من هذه الفوضى وبهرهم ما توصل إليه من تقدم مادي وتكنولوجي فاعتقدوا أن هذا التقدم يصحبه تقدم أخلاقي. في نظرهم - فتعصبوا له وبذلوا الجهد في نشر ما عرفوه عنه بكل الوسائل والطرق، وعلى النقيض من ذلك ظل أصحاب المعتقدات وأصحاب القيم يتمسكون بمعتقداتهم، بل لقد ازدادوا تعصباً لمعتقداتهم لمواجهة أصحاب الفكر التحرري، مما تسبب من ظهور تيارات متعصبة قادها هذا التعصب إلى الغلو وبالتالي رفضت كل ما عدا فكرها، ولاشك أنها عقيدة قديمة ولكنها تنشط بين وقت وآخر. ومما لاشك فيه أن كل هذه العوامل قد أثرت على القيم الإنسانية فأدت إلى اختلالها وإيجاد قيم جديدة، وأثارت البلبلة والتشويش على القيم السائدة، مما دفع بعض الجماعات أن وصفت بالرجعية أو التقليدية أو الأصولية لتمسكها بالقيم والأخلاق الموروثة، ومن ثم حدث الصراع بينها وبين أصحاب الفكر والاتجاهات الجديدة من نفس التيار أو من التيارات الأخرى فرفضوا أفكار الآخرين، ولم يؤمنوا لا بوسطية ولا غيرها فرفضوا كل ما عدا فكرهم!! بل لقد اتجهوا - أحياناً - (أعني الأطراف) إلى العنف واتخذوه سلاحاً لتحقيق ما يصبون إليه ويسعون إلى تحقيقه، مهما كانت النتيجة دون النظر إلى ما قد يسببه هذا الطرف الفكري. إن التعصب والغلو يجعل الإنسان يرى من جانب واحد فهو يرى ما يعتقده ويسيء إليه فقط لا يرى ما يجب أن يراه، ومن ثم فهو يشوه السلوك والتفكير ولا نستطيع أن نحصر في هذا المقال عيوب التعصب والغلو وأضرارهما على الفرد والمجتمع والأمة بأسرها، بل نذكر بعضاً منها: فهو يؤدي إلى التفكك والصراع والتفرقة، وينهج صاحبه سلوكاً وأخلاقيات غير مستحبة وغير لائقة، وقد يقوده هذا التعصب أو الغلو إلى تكوين جماعات تفرخ عصابات تحاول نشر مبادئه إما بالطرق السلمية أو بالقوة الهادفة إلى التخريب أي تحقيقها بأي وسيلة حتى لو اشتملت على العنف والقتل والإيذاء بكافة صوره وأشكاله. إن الحقائق التي اتسم بها القرن العشرون أن حوالي ثلث سكان العالم يعيشون في ظل مذهب ليس في مبادئه الأساسية اعتراف بوجود الله، وهم أصحاب الوجودية والمادية، الذين يرون أنه لا يمكن أن تتفق المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ مع فكرة وجود الله سبحانه وتعالى، وهكذا تسللت كل هذه المثالب إلى العالم كله وأثرت على بعض الشعوب غنيها وفقيرها ولم تستطع الكثير من المعتقدات والمجتمعات باستثناء الإسلام أن توقف مد هذه التيارات، ويعتبر الإسلام الديانة الوحيدة التي صمدت أمام تيارات الفساد والإلحاد، فهو أمة وسط يحتفظ بنقاء الإيمان ولا تزال الفضائل والقيم الإسلامية التي دعا إليها الإسلام فضائل مقدسة ولا تزال الرذائل التي نهى عنها أعمالاً بغيضة تنفر منها نفس المؤمن، بل كل إنسان سوي عاقل يعمل تفكيره في الأمور والبيئة المحيطة به. وللتعصب صور عديدة أهمها: التعصب العنصري كما هو الأمر في الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد السود، خاصة قبل ظهور قانوني ال (Affirmative Action, merit system) وحتى كتابة هذه السطور، لكن ليس على المستوى السياسي ولا على المستوى السابق خاصة في الولاياتالجنوبية، وفي جنوب أفريقيا قبل نيلسون مانديلا، وفي بعض الدول الإفريقية انقلب الوضع إلى تعصب السود ضد البيض، ويبدو ذلك جلياً من مظاهر المعاملة التي يعامل بها هؤلاء في المجتمع، فربما لا يتقاضون نفس الأجور التي يحصل عليها غيرهم، ويحرمون من التمتع بالحقوق السياسية علناً أو ضمناً وهناك التعصب الطبقي ومثاله التعصب الذي يوجد في بعض المجتمعات ضد طبقة العمال، والتعصب السياسي الذي يوجد ضد الشيوعية أو ضد الرأسمالية، وهناك التعصب القومي أو القبلي لفئة أو لجنس أو لطائفة معينة أو مبادئ قومية خاصة، وهناك التعصب الديني، ومثاله التعصب الذي تمارسه بعض الجماعات غير المسلمة ضد المسلمين، بل لقد حاول بعض أعداء الإسلام أن يتهموا بعض المسلمين المتمسكين بتعاليم الإسلام وقيمه بأنهم متعصبون، أو العكس صحيح وهو التعصب أو الغلو الذي تمارسه بعض الجماعات الإسلامية ضد كل شخص أو جماعة لا تسير على نهجها ولا على طريقتها بل وصل بهم غلوهم إلى تكفير كل من لا ينتمي إلى جماعتهم ناسين أو متناسين بأننا أمة وسط حتى في علاقتنا مع غير المسلمين فلهم حقوقهم وعليهم واجباتهم تجاه المجتمع الإسلامي وكذلك التعصب لمذهب فلهم حقوقهم وعليهم واجباتهم تجاه المجتمع الإسلامي وكذلك التعصب لمذهب ضد الآخر أو لفرقة دون الأخرى، أو لدين ضد الآخر، ومن صوره التي تنتشر بين الشباب بصفة خاصة التعصب مع أو ضد الأندية الرياضية أو الفلسفات المعاصرة، وقد تتعصب بعض الأقليات وتحاول أن تدافع عن مبادئها في مواجهة النظرة الدونية التي ينظر إليها المجتمع من خلالها مثل طبقة المنبوذين في الهند، وقد يتعصب بعض الرجال ضد النساء أو العكس، كذلك فإن بعض الفئات من أصحاب مهنة معينة يتعصبون لمهنتهم ضد غيرهم. وظهرت نظريات أخرى ترى أن التعصب ربما يكون إيجابياً وطبيعياً في الإنسان إذا لم يصل إلى حد الغلو شيء طبيعي في الإنسان، بمعنى أنه يولد متعصباً ولديه استعداد لذلك، فالتعصب ما هو إلا سمة من سمات الشخصية، فصاحب الشخصية المتعصبة يمارس أفعال التعصب حتى في ظل غيبة الظروف والمثيرات الخارجية التي تدفعه إلى التعصب، إذ يصبح الفرد متعصباً ضد كل الناس في المجتمع ولديه ميل طبيعي لذلك، ويجد ذاته في ممارسة أعمال التعصب، التي تشعره باللذة لكن هذا التعصب لا يتعدى حدود حرية الفرد المسموح بها ضمن نطاق المجتمع، ولكن بعض النظريات ترى أن التعصب يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق الغايات والمصالح الشخصية، وهذا ما نلاحظه لدى الأفراد المنتمين إلى بعض التجمعات والتنظيمات الحزبية التي يحاولون من خلالها الوصول إلى تحقيق أهدافهم الخاصة والشخصية، وهم يستترون وراء العضوية ومبادئ الحزب الذي ينتمون إليه. تفسير أسباب التعصب ودوافعه أياً كانت النظريات المفسرة للتعصب، فإذا نظرنا إليه على أنه قضية تربوية قبل كل شيء يمكن أن ندرك الأسباب ومن ثم يسهل علينا التوصل إلى العلاج الشافي منه: فمن أهم أسبابه عدم الوعي والإدراك السليم لدى أفراد المجتمع وخاصة فئة الشباب، فقد بدأت سموم الأفكار الهدامة تنفذ في عقول الشباب وعواطفهم وتدفعهم دفعاً نحو التمسك بها ومعاداة كل ما هو سواه، وهذا ما نلاحظه ببساطة لدى المراهقين الذين يرفضون أي أفكار أو توجيهات من الآباء والأمهات والمدرسين والمربين، حيث يشعر كل منهم بكيانه ويحاول أن يثبت رجولته من خلال رفض كل الأفكار - حتى ولو كانت صحيحة - والتمرد عليها (الثمرة المحرمة حلوة Forbidden Fruit Is Sweet كما أن من أسباب التعصب التفكك الاجتماعي وعدم الترابط والتماسك بين أفراده، وكذلك وجود طوائف أو فئات اجتماعية أو مهنية تتمتع بميزات تخلق شعوراً لدى الفئات الأخرى ذات المستوى الاجتماعي الأدنى بانعدام العدل والإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص، خاصة في المجتمعات التي تؤمن بالطبقية، كما أن عدم كفالة حقوق الأقليات سواء الدينية أو الطبقية أو العرقية - يؤدي إلى تنمية الشعور بالتعصب لدى أفرادها، فضلاً عن ذلك فإن إغلاق العضوية في بعض الجماعات وقصرها على فئة معينة يجعل أفرادها يتعصبون لمبادئها ويشعرون بميزات غير متاحة لغيرهم، كما يجعل غيرهم ممن لم تتح له فرصة الانتماء إليها يشعرون بالدونية والحرمان مما يدفعهم إلى مهاجمتها بكافة الوسائل والتعصب ضدها. يضاف إلى ذلك ميل الفرد إلى التقليد والمحاكاة دون أن يعمل عقله وتفكيره، فيقلد الفرد سلوك الجماعة، حتى ولو كان هذا السلوك خاطئاً، فيصبح هذا الفرد (إمعة)، والشعور بالفشل والإحباط وعدم القدرة على تحقيق الأهداف يعتبر سبباً جوهرياً من أسباب التعصب، ففشل الإنسان في حياته وفي تحقيق ما يصبو إليه قد يدفعه إلى معاداة الآخرين، لاسيما أولئك الذين حققوا ذاتهم في المجال الذي كان يتمناه هو لنفسه، وهذه المعاداة لا سلاح لها إلا التعصب الأعمى المدفوع بالغيرة والحقد والحسد. آثار التعصب على المجتمعات ويعتبر التعصب من الأمراض الاجتماعية والفردية التي تؤثر تأثيراً سلبياً على الفرد وعلى المجتمع على حد سواء، إذ أنه يعوق كليهما عن تحقيق الغايات السامية والأهداف النبيلة التي يسعى إليها، وهذا يرجع إلى أن التعصب لا يستند إلى أهداف وأسس واقعية أو منطقية بل ما هو إلا جنوح للفكر وميل إلى التطرف والبعد عن الاعتدال، والغلو المرفوض، لذلك نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلو. ولا تقتصر آثاره السيئة على ذلك بل يمتد خطره إلى الدين نفسه ويضر بالأمة كلها من جراء الفهم الخاطئ لأحكام الدين أو التحلل من تعاليمه السمحة الصحيحة، هذا فضلاً عما يؤدي إليه من هدم الأخلاق وتقويضها أو التصوف والرهبانية أحياناً أخرى، ولاشك أن هذا أو ذاك كلاهما مذموم، فالاعتدال يتفق مع طبيعة الإنسان، أما الصراعات والتطرف والتعصب فتؤدي إلى صراعات فكرية وآثار مدمرة، ولهذا فالإسلام نادى بأن تكون الأمة أمة وسطاً لا رهبانية ولا تطرف، ولا إفراط. [email protected]