إن مفهوم التعاقب الإداري في العمل العائلي لا يعني فقط تسليم زمام الأمور للشخص- أو الأشخاص- من الجيل الثاني في العائلة بل يجب أن يتسع ذلك المفهوم ليشمل العملية المتكاملة للتحول الإداري. هذا المفهوم من الضروري أن يتضح من خلاله أن عملية التعاقب الإداري في العمل العائلي ليست مجرد أن يتم التحكم من قِبل الأفراد الآخرين في العائلة في العمل، وإنما بناء أساس علمي سليم لنقل السيطرة على كامل جزئيات العمل من الجيل الأقدم إلى الجيل الأحدث في العائلة. العديد من رؤوس الهرم في قطاع العمل العائلي لديهم إيمانٌ عميق بأن وجودهم الشخصي يعتبر من الضروريات لاستمرار نجاح العمل العائلي، بل إن عدداً كبيراً منهم يرى أن العمل العائلي هو ابن من أبنائهم وبالتالي ليس من الممكن أن يتولى شخص آخر-سواهم- رعايته والاهتمام به بالصورة الصحيحة، وهذا مما يؤدي إلى انتفاء الرغبة لديهم في مجرد التفكير في التخطيط لإدارة العمل العائلي في مرحلة ما بعد الجيل الأول في العائلة. إضافةً إلى ذلك فإن نسبة كبيرة من مؤسسي أو قائدي الأعمال العائلية إذا ما أرادوا التخطيط لعملية إعداد فرد ما في العائلة لتولي منصب قيادة العمل العائلي يقومون بذلك بشكلٍ صوري، فالبعض منهم يتبعون أسلوب (دعني أعطي الفرصة له)، بينما هم في حقيقة الأمر يضعون ذلك الشخص في أصعب مواقع العمل من غير أن يعملوا على إعداده وتأهيله بصورة صحيحة، ومن ثم يكتفون بمراقبته من بعيد. بينما يلجأ البعض الآخر لطريقة أخرى مفهومها الاحتواء الكاذب، من قبيل ذلك ما يتم عمله من استحداث منصب جديد في منظومة العمل العائلي (مثل منصب المدير الإداري المساعد، وما إلى ذلك)، ومن ثم يتم تسليم مسؤولية ذلك المنصب المستحدث للشخص الذي من المفترض أن يتسلم قيادة العمل العائلي من غير أن تكون هناك مسؤوليات فعلية منوطة بذلك المنصب. إن عملية إعداد وتأهيل فرد ما من العائلة لتولي زمام إدارة العمل العائلي يجب أن تولي أهمية فائقة في جميع الأحوال، فليس من المفترض ألا يتم التفكير في هذه الخطوة إلا بعد أن يصبح مؤسس العمل العائلي أو المسؤول عن إدارته عاجزاً عن أداء مهامه (لمرضٍ أو غيره)، لأن هذا الوضع سوف يجعل الأشخاص أصحاب القرار في العائلة في حالة ارتباك تؤدي بهم في أغلب الأحيان إلى اتخاذ قرارات لا تصب في مصلحة العمل. ومما لاشك فيه أنه من الأفضل بمراحل أن يتم الإعداد والتخطيط لمرحلة ما بعد مؤسس العمل العائلي -أو المسؤول عن إدارته- حين تتوفر المساحة الزمنية لاختيار الشخص المناسب عوضاً عن أن يتم ذلك في حالة من الارتباك والتي من المرجح بنسبة كبيرة أن تؤدي إلى الإضرار بالعمل. ومن الأسباب الكامنة وراء عدم تفكير- أو اهتمام- مؤسس أو قائد العمل العائلي في إعداد شخص قادر على تسلم قيادة العمل العائلي فيما بعد عديدة، منها: * صعوبة تخيل أن تؤول قيادة العمل الذي جهد مؤسس أو قائد العمل العائلي في إنشائه إلى شخص آخر أقل خبرة ومعرفة به. * حساسية التفكير في مواضيع المرض- الموت، مع العلم بأن العمل على إعداد شخص قادر على قيادة العمل من الجيل الأحدث لا يعني بالضرورة إعلان وفاة المؤسس أو القائد للعمل العائلي. * خوف الورثة من مناقشة موضوع ضرورة الإعداد لمرحلة ما بعد المؤسس أو القائد للعمل العائلي، حتى لا يتم اتهامهم بالجشع أو الرغبة في السيطرة على مقدرات العائلة. * خوف المسؤولين التنفيذيين داخل منظومة العمل العائلي من التأثير الذي سوف يتولد من وجود الشخص المرغوب في تهيئته لتسلم قيادة العمل العائلي (إما على سير العمل وإما على مناصبهم). * خشية أصدقاء ومعارف مؤسس أو قائد العمل من إثارة هذا الموضوع مراعاةً لمشاعره. * الراحة النفسية المتولدة لدى مؤسس أو قائد العمل العائلي من عدم إثارة الموضوع مما يجعله قادراً على تفادي اتخاذ القرارات الصعبة وإن كانت صائبة. بينما تأتي أهمية إعداد خطة جيدة للتعاقب الإداري في العمل العائلي: * الحفاظ على ميزات العمل العائلي: مؤسس أو قائد العمل العائلي غالباً ما تكون له بصماته المميزة في ذلك العمل، هذه البصمات التي تميز أعمال مؤسسي- قائدي العمل العائلي تكون عرضةً للتلاشي والاندثار في حالة تركهم مناصبهم القيادية إما لأسباب إرادية كالرغبة في خوض تحديات جديدة أو التقاعد، أو لاإرادية كالمرض أو الموت. * تحقيق أمنية الخلود من خلال تواصل العمل العائلي: حيث إن الطريقة الوحيدة لتحقيق تلك الأمنية تتمثل في القدرة على الحفاظ على نجاح العمل العائلي مع تعاقب الأجيال المختلفة على إدارته وبالتالي الحفاظ على الاسم العائلي مع مرور الزمن. * فتح المجال للابتكار والإبداع: إن وجو العمل العائلي يمكن أن يوفر مجالاً للإبداع من خلال إعطاء أفراد العائلة الصلاحية للتجديد والابتكار داخل منظومة العمل العائلي، والذي من الممكن ألا يتم توفره خارج تلك المنظومة. * القدرة على التجديد والابتكار في العمل العائلي: تمتاز الأجيال الأصغر بأنها أكثر قدرة على متابعة التطورات التي تستجد في المجالات المختلفة. هذا المفهوم ينطبق كذلك على العمل العائلي، حيث إن الجيل الشاب في العائلة يكون أكثر قدرة على ملاحقة التطورات التي تحدث إما في نوعية التقنيات المستخدمة وإما في تسارع المستجدات في السوق، ومن ثم إحداث التغييرات المطلوبة لمواكبة تلك التطورات والمستجدات. * تعزيز القيمة المادية للعمل العائلي: إن وجود خطة جيدة لموضوع التعاقب الإداري في العمل العائلي يرفع من قيمة أسهمه في السوق، ويرجع ذلك إلى الاستقرار المتوقع لذلك العمل حتى في ظل تغير القيادة التي تدير شؤونه. أما الكيفية التي يمكن من خلالها اختيار الشخص المناسب من العائلة لتسلم قيادة العمل العائلي: فهناك أساليب متعددة يلجأ إليها الكثير من مؤسسي- قائدي العمل العائلي عند رغبتهم في إعداد فرد ما من العائلة لتولي منصب قيادة العمل في المستقبل،ولكن معظم تلك الأساليب لا تكون مبنية على أساس علمي سليم. حيث إن وضع أسماء أفراد العائلة في مسيرات الرواتب الصادرة ضمن نطاق العمل العائلي فقط لحاجة أولئك الأفراد للمال ودون أن يكون لهم دور حقيقي داخل منظومة العمل العائلي يعتبر رفاهية مبالغاً فيها، ولهذا السبب قامت مجموعة بيت البترجي الطبية بإنشاء مؤسسة اجتماعية غير هادفة للربح بمحافظة جدة، أطلق عليها اسم (أكاديمية الشركات العائلية)، وتعمل هذه الأكاديمية على تعزيز وتنمية قطاع العمل العائلي على مستوى الشرق الأوسط. وعند الرغبة في وضع استراتيجية علمية سليمة لتنظيم موضوع التعاقب الإداري في العمل العائلي، لابد من مراعاة النقاط التالية: * الحرص على زرع القيم الأساسية للعمل في نفوس أفراد العائلة منذ الصغر (مثل: العمل الجاد، تنظيم عملية صرف النقود، المشاركة، التضحية والتفاني، وروح العمل الجماعي). * عدم فرض حتمية الالتحاق بالعمل ضمن منظومة العمل العائلي، بل يجب أن يتم التحاق أي فرد من العائلة للعمل في تلك المنظومة عن اقتناع ورغبة حقيقية. * من الضروري أن تشتمل الخطة المقترحة على أساليب لتطوير المهارات الاستثمارية والقدرات الإدارية لدى الأجيال الصغيرة في العائلة. * يجب أن يتم توجيه أفراد العائلة منذ الصغر إلى التفكير في إيجاد الطرق المثلى للمساهمة في تنمية العمل العائلي، ولا يكون تفكيرهم منحصراً في الحصول على أكبر قدرٍ من المكاسب الشخصية من خلاله. إن عملية احتواء وتهيئة الفرد المناسب لتسلم قيادة العمل العائلي يجب أن تبدأ منذ المراحل السنية المبكرة التي تسبق سن المراهقة. كما أن بعض الأفكار البسيطة يمكن أن تسهم بشكلٍ فاعل في إعداد ذلك الفرد، كأن يتم إشراك أفراد العائلة من صغار السن في العمل العائلي ولو بصورة غير رسمية خلال العطل الدراسية، مما سوف يكسبهم الخبرات الأساسية عن طبيعة العمل في تلك المنظومات العائلية. من ثم يمكن صقل تلك الخبرات المكتسبة من خلال برامج تدريبية مناسبة يلتحق بها أولئك الأفراد بعد إنهاء مراحلهم التعليمية. ومن الضروري كذلك أن تتم معاملة ذلك الفرد من قِبل مسؤولي منظومة العمل العائلي كأي موظفٍ عادي من خلال تحميله مسؤوليات عمله الذي هو مكلف بإنجازه مع مراقبة أدائه بصورة محايدة بعيدة عن المجاملات كما أنه لا ضرر من أن يتم تشجيع ذلك الفرد على اكتساب أكبر قدر ممكن من الخبرات خارج إطار العمل العائلي ومن ثم توظيف تلك الخبرات في تنمية قدراته لإدارة العمل العائلي. وفي جميع الأحوال لا مفر من أن يتم عمل تقويم دوري لأداء ذلك الفرد. بعد الاطمئنان إلى نضوج المهارات الإدارية والقيادية لدى ذلك الشخص يمكن أن يتم وضعه في منصب يخوله لاتخاذ قرارات محدودة اختباراً لقدراته في مجال اتخاذ القرار، ويلي تلك الخطوة وضع ذلك الشخص قيد التدريب في موقع قريب من قائد مجموعة العمل لاكتساب الخبرات الضرورية لقيادة العمل العائلي تمهيداً لتسلمه فيما بعد مسؤولية إدارة العمل العائلي. وعند مراجعتنا للدراسات التي تمت في مجال نجاح الأعمال العائلية على مستوى العالم، نجد أن الثلث فقط من تلك الأعمال يواصل النجاح عند تسلم الجيل الثاني مهام قيادته، بينما يتمكن 10% فقط من هذا الثلث من مواصلة النجاح في عهد الجيل الثالث في العائلة. إن هذه النسب الإحصائية لا يمكن تحسينها في أي مكانٍ من العالم إلا باستخدام الأنماط والأسس العلمية السليمة في رسم خطط التعاقب الإداري في العمل العائلي، وتعد تجربتي كلٌ من ألمانيا وسويسرا من أنجح تجارب الدول في مجال تنمية قطاع العمل العائلي باستخدام الأساليب والأسس العلمية. في هذا الإطار تعتزم أكاديمية الشركات العائلية تنظيم ورشة عمل يوم 5 مارس 2005م لإلقاء الضوء على بعض المفاهيم الحيوية في مجال تنمية وتعزيز قطاع العمل العائلي. [email protected]