الشعوب والمجتمعات يقاس وعيها ونضج تفكيرها بالبعد عن تقديس الرجال وبترك التعصب للآراء والأقوال وكلما كان النقد الصادق يحظى بالتأييد والقبول أدى ذلك إلى تصحيح الحال وتحسين المآل، وعندما يتحرج المرء ويضيق ذرعاً إذا عُرِضت آراؤه وأفكاره فالنتيجة السير نحو الوراء في الأداء وإنه لمن علامة النضج العقلي لدى الشعوب السلامة من حساسية النقد وعندما تعطر هذه الفكرة بمنهج القرآن يبدو جلياً شرعية العتاب والنقد. قال سبحانه وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} فالمولى جلا وعلا عتب على نبيه صلى الله عليه وسلم. قال السعدي: (وذلك حين أعرض عن الفقير الأعمى رغبةً في تزكية الرجل الغني فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف). وكذا أول سورة التحريم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وفي السنة الأحاديث متواترة في عتاب النبي صلى الله عليه وسلم ونصحه وتقويمه لأصحابه ولكن النقد مهما دعي إليه وأظهرت آثاره اليانعة إلا أن الجنوح مذموم والمبالغة ممقوتة فلا غلو ولا جفاء. فمن ضوابط النقد: أولا: ألا يصبح عادة لدى الفرد وديدناً له في كل مجال وحال وحتى يطغى على مقالات الكتاب ومجالس العوام ومنتديات المثقفين حتى أصاب الأذان الصم عن سماع المدح والإطراء المعتدلين وإن لامس أذنيك شيء منه إلا ويطفو عليه سيل القادحين الحاذق بكلمة (ولكن) الجارحة وربما القاتلة. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه قال شوبنهور: إن الأشخاص السوقيين يجدون لذة في اكتشاف أخطاء وهفوات الرجال العظام. ثانيا: ما أجمل الإنصاف ومجانبة الإجحاف فيا ليت الناقد يصدر حديثه بالمحاسن ليشعر المقصود بعدم الغفلة عنها أو تهميشها أو مصادرتها أو تصيد الزلات والهفوات. ثالثاً: الناقد الحاذق يتحرى الدقة في نقل الأخبار ولا ينسب التقصير إلى غير أهله أو يحمل الفرد خطأ غيره وحينها يفقد المصداقية ولو صدق {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وليحذر الأسانيد المنقطعة والمجهولة والرواة المتعجلين وغير المتأكدين من مصادرها وكفى بساحات الإنترنت شاهداً. رابعا: أين البلاغة في العرض؟ فالتلميح مليح والإبداع بديع والإجمال جميل وحين تشيد بمن يتقيد بالمواعيد فالمفهوم العتب على المهمل لمواعيده وكذا إذا أثنيت على ذات الحجاب المحتشم وكذا حين تثني على الموظف المتفاني في عمله اللطيف في تعامله، فمنطوق كلامك الإطراء على المستحق ومفهومه ذم المقصر. خامسا: لو نظرنا سريعا في كتب الحديث تجد كتاب المناقب وقل أن تجد حديثا فضلا عن باب فيه ذم أو تجريح فالنبي عليه السلام يحب ذكر المحاسن فمنهما قوله عليه السلام: (عن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا) رواه البخاري. وقال عن الزبير (إن لكل نبي حواري وحواري الزبير) رواه البخاري. وطال ثناؤه البلاد فقال عن اليمن (الإيمان يمان والحكمة يمانية) رواه البخاري والشام وغيرها وكذا القبائل فقال (تميم هم أشد أمتي على الدجال) رواه البخاري. وتلك الصفة النبوية يجدر التحلي بها ومحاولة اعتياد الفرد عليها حتى تصبح سمة بارزة في تعاملنا مع الآخرين فنكسب بها القلوب ونؤثر في النفوس ونعزز جوانب الإشراق فيها فالزوج مع شريكته والمدرس مع تلاميذه والأب مع أبنائه. سادساً: إن الفطرة السوية تنفر من النظرة السوداوية التي تبرز المعايب والمثالب فيطغى على الفرد التشاؤم فلا يقنع بإنجاز ولا يفرح بنجاح وربما ظل ينظر بعين عوراء ذات نظر ضعيف قصير. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا ويشهد لهذه المقولة: إذا كان لديك كوب نصه ماء فالمتفائل يقول نصفه ممتلئ والمتشائم يقول نصفه فارغ وهكذا في بقية المشاريع. المتفائل إنسان يرى ضوءاً غير موجود، والمتشائم يرى ضوءاً ولا يصدقه. سابعاً: الناقد الصحيح يحذر التصريح فينهج نهج ما بال أقوام فالتحذير من الفعل لا الفاعل والنقد للقول بدون القائل. وما أشنع أثر المنافقين على المجتمع المسلم ومع ذلك اكتفى القرآن بالوصف معرضاً عن التسمية {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (58) سورة التوبة (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم سراً مكتوماً حتى المشركين المحاربين للدعوة لم يذكر منهم في القرآن إلا أبو لهب. ثامناً: عجبت لمن يبكي على فقد غيره زماناً ولا يبكي على فقده دماً وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى فلا يجدر التدقيق على الناس وإغماض العين عن عيوب أنفسنا، فنفسك التي بين جنبيك صحح مسارها. وأولادك هذب أخلاقهم والمؤسسة التي تنتمي لها قوم الإعوجاج الذي فيها، وابدأ بمن تعول والأقربون أولى بالمعروف وأنذر عشيرتك الأقربين، فلا تفكر بإصلاح الدولة قبل المدينة ولا الحي قبل البيت.