ذات يوم من سنة 1916م قام الأستاذ العقاد بزيارة للدكتور يعقوب صروف والسبب في ذلك كما جاء على لسان العقاد (تعقيبا على مقال للآنسة مي زيادة حول فلسفة برجسون - لم أقرها على كثير مما فيه - وكان الدكتور صروف يقرأ التعقيب وهو يبتسم ويقول بين آونة وأخرى (يا رجل : أتتمرجل على بنت؟..) انتهى كلام العقاد، فاستعاد العقاد المقال ، وعلم فيما بعد أن الدكتور أطلع الآنسة مي على ملخص التعقيب. تلك الحادثة حدثت وأبطالها عمالقة بل هرمان في ذخائرهما الفكرية والثقافية والأدبية واللغوية فها هو العقاد بثقله الذي معه،وبالمنطق الذي لا تملك إلا أن تقتنع بما يقوله.. ومع ذلك تراجع عن مقال كتبه مختلفا فيه مع مي زيادة. ومن جهة أخرى مي زيادة أديبة الشرق كله بما كانت تملك من حضور حسي وحضور ثقافي لدى شرائح المجتمع العربي في تلك الأيام التي كانت مثخنة بالجروح السياسية والاجتماعية والفكرية. الرابط في الحديث أن الأستاذة قماشة العليان تحولت ككيان شخصي وككيان أدبي إلى طبق شهي على طاولات النقاد لدينا.. ومن نافلة القول: إن الأستاذة قماشة لو كتبت هي لكانت في وضع المدافع المأزوم وهي ليست في ذلك الوضع نهائيا، فكان لابد لها من أنثى تنتصر لها مما قيل وكتب ونقد عليها من زاوية أن ما يجمعنا أنثويتنا، ومن زاوية أننا متذوقات وحسنا الأدبي والثقافي والفكري على الأقل يؤهلنا للحكم على ما بين أيدينا بالرداءة أو الجودة. مما لا ريب فيه أن المقارنة هنا لها صفة العمومية من ناحية الحدث فقط وليست الخصوصية من ناحية الأشخاص، فلا مجال للمقارنة لأن الرواية كفن تتربع على عرش الأدب، أما المقال فهو في قاعدة هرم الأدب فالإبداع في الرواية اكثر قسوة على صاحبه من الإبداع في المقال - مع الاحتفاظ لكل منهما بإبداعه كل في مجاله فكلتاهما مبدعتان - فالروائية تعايش ابطالها بهمومهم وبأحزانهم وبأمراضهم وبجبروتهم، ولا تنفك تبحث لهم عن حلول لمتاعبهم وتنسج حولهم شباكها محاولة منها احتواء مجتمع بأكمله جاءت روايتها نقلا مصغراً لما يعانيه ذلك المجتمع. وبالنسبة لي وحسب مقاييسي في الحكم على ما يقع بين يدي من كتابات على اختلافها واختلاف جنس وجنسية كاتبها أعتبر الأستاذة قماشة متفوقة لدرجة الإبهار لسبب بسيط جدا وهو أنني في كل زيارة لي للمكتبة أتحصل على رواية لها، وكل مرة تأخذ روايتها دورها في المرور على طاقم العمل لدي واحدة وراء الأخرى.. وعلى جاراتي، وحتى صديقاتي اللاتي طوت علاقتي بهن الأيام.. الجميل في الأمر أن روايتها لا تأخذ في يد إحدانا أكثر من 48 ساعة لمن كانت مبحرة في محيط اعمالها وشؤونها في بيتها ومع أولادها وعملها.. بالإضافة إلى أن الأحداث والأشخاص والأبطال يتحولون إلى جزء يومي من مناقشاتنا وحواراتنا وجلساتنا زمنا ليس بالقصير. المقياس الحقيقي بعيدا عن دراسة النقد أكاديميا، وبعيداً عن دقة المتفحص الباحث عن الخلل، وبعيداً عن مصطلحات أعترف أنني لا أفهم منها أي مصطلح في عمليات تقييم العمل الأدبي.. بعيدا عن ذلك كله أن تستثير - من قارعة الطريق - قارئاً واحداً فقط من خلال كتاباتك ..ذلك مقياس الإبداع او لنقل رسم البصمات، أو لنَقُل: الحفر في النفوس والعقول في وقت أرى فيه أن جماعات المثقفين هي المؤلفة وهي الناشرة وهي القارئة. أن تتحول رواية الأستاذة قماشة إلى طبق شهي تسترق القراءة فيه امرأة في مطبخها وهي تعد اطباقها لأهل بيتها في زمن ندرت فيه القراءة عموما!! فما بالكم بندرة مفهوم القراءة الجماعية وندرتها تلك على المستوى العام للنساء فكيف بمستوى ندرتها في نطاق المرأة العاملة الأم، أو المرأة الأم .. أليس ذلك نجاحاً حقيقياًََ!! واستميحكم عذراً في أن أمرَّ على جزئية من الهم الجميل الذي أعيشه كل يوم وأقول لكل امرأة : احرصي على ان يكون لك عالمك، قراءتك ، مبادئك ،مقتنياتك الفكرية؛ تكونين فيه حاضرة عنوة كالأخطبوط في كل المساحات التي يطالها قلبك وعقلك وما أوسعها تلك المساحات. جاءتني صحيفة (الجزيرة) في ملحقها الثقافي في صبيحة يوم ما من السنة الماضية تحمل في طياتها أنثى جريحة.. بشرتها أرق من أن تجرح.. وفكرها أنقى من أن يشوب بدماء الجروح.. ثم جاءتني صحيفة الوطن في هذا الشهر الفضيل وهي تحمل نقداً ممزوجا بسخرية لإحدى روايات تلك الأنثى لماذا هذا الفحص المجهري؟!. أم أنها عقدة الأنثى.. لكن لا! لا أتصور أن المثقفين يحملون على ظهورهم هذه الصخور الحجرية في الحكم على النصوص الأدبية الأنثوية، في حين أن الإبداع لا يقبل التجزئة ولا يخضع للجنس نهائيا أم أنكم تريدونها حربا وليكنْ.. فلن يكون هناك جمال لأي مجال لا تخربش فيه الأنثى فكيف إن هي أبدعت؟! ولذلك أقول لكم يا سادتي ويا أساتذة، مثلما أنكم تؤلفون وتكتبون وتمتصون رحيق الثقافة والأدب لدرجة الشبع والامتلاء، ومثلما أنكم تقفون على المنابر وتتكلمون وتخاطبون.. لا تتبنونا.. ولكن لا تطردونا، دعونا فقط نكتب ولو من وراء حجاب !!