لو أراد روائي أن يصور الحياة السياسية العربية منذ ستينات القرن الماضي العشرين ، وأن يختار لراويته شخصية إشكالية مكتظة بالتباسات ما تعاور الحياة السياسية العربية على مدى نصف قرن من تيارات فكرية وسياسية ، لكان ياسر عرفات هو البطل الإشكالي لهذه الحقبة العلابية بامتياز ، حيث اجتمعت فيه كل تيارات وتناقضات وصراعات النصف قرن الأخير من القرن العشرين ، فإذا كان البطل الإشكالي روائيا حسب (لوكاش - غولد مان) تتحدد إشكاليته في البحث عن القيم في محيط منحط ، فإن القيمة الكبرى في حياة عرفات كانت فلسطين ، فلقد كانت فلسطين وظلت هدفا مرتجى للبطل الإشكالي - ياسر عرفات - تحيل دون تحقيقه حالة الانحطاط العربي الحضاري والسياسي والثقافي ومن ثم العسكري بداهة. ويضيف غولد مان ، متحدثا عن العوامل التي تؤدي بالبطل الباحث عن القيم في وسط منحط ، إلى الانصياع لشروط وظروف الانحطاط ذاتها المحيطة بالهدف ، والتي تشكل الوسيط الضروري لبلوغه ، وهكذا ستؤدي إشكالية العلاقة بين الهدف ووسائل تحققه إلى جوهر دراما الوجود الاجتماعي للبطل ، وذلك بسبب تناقض الوسائل (المنحطة) مع الغايات النبيلة ، وهنا مكمن الإشكالية ، إذ تتراءى قضية البطل في صيغة قضية لا تتسق مع منطق العقلانية القائمة على تطابق الأهداف مع الوسائل ، وهنا تتولد العناصر الدرامية والملحمية للشخصية ، ومن هنا يمكن أن نلج إلى هذا المزيج المعقد في شخصية عرفات. ولعل المدخل الرمزي الأول للتعرف على السماء الذهنية والفكرية والثقافية لشخصية عرفات ، هو البدء في لباسه ، فاللباس (الزي) اختيار ، ثقافة ، حرية وضرورة ، رغبة الأنا في الحرية الفردية وشروط الأنا الاجتماعية والثقافية والقومية التي ترغمها على الانصياع للسائد ، من هنا فان خيار عرفات ل (البدلة -البذة) الحديثة ، والعقال التقليدي ، (بدلة - بذة) المهندس المدني الذي درس في جامعة القاهرة ، والعقال الخليجي بعد أن مارس عمله كمهندس مدني في الكويت ، لكن بدلة الحداثة المصرية للزمن الليبرالي ما قبل ثورة 952 ا ستتلون باللون العسكري الباهت والكالح ، انسجاما وتناغما مع مرحلة (العسكر الثوريين) القادمين من الريف ، والذين شارك معهم في حرب السويس - 956- بعد أن كان قد التحق بالجيش المصري في عام - 1950 -. إذن مع قيام منظمة التحرير - 964 - ، كانت المكونات الثقافية والسياسية للإيديولوجيا العربية (الحداثة - التقليد) ، (المدنية - العسكرية) ، ومن ثم المشرق العربي (مصر) الخليج العربي (الكويت) ، بذة ليبرالية سيبهت لونها وتكلح مع العسكر الفلاحين ، وايديولوجياهم الشعبوية (عروبوية - اسلاموية) ليتوج بعقال كويتي ، هو الأكثر رقة ونعومة ليبرالية في عالم صحراء الخليج .. هل استطعنا من خلال الإيماء إلى هذه الإيحاءات السوسيو- روائية أن نضع يدنا على المادة الخام لهذه الشخصية المنمذجة للإيديولوجيا العربية المهزومة عبر نصف قرن حسب العروي والحافظ ، والتي كان تتويجها فلسطينيا بدخول البطل الإشكالي عرفات ، غرفة الإنعاش والموت السريري ، منذ حصاره في مقره في رام الله ، إشارة إلى انتهاء مرحلة كاملة. في رام الله سيقود شارون أكبر عملية عسكرية في الضفة الغربية منذ حرب - 1967 - حيث سيكون هذا الانقضاض (الشاروني) تعبيرا عن أحط لحظة في تاريخ القرن العشرين للعرب ، وهكذا فان الهدف النبيل (تحرير فلسطين) للبطل الإشكالي عرفات ، لم يستطع ولن يستطيع أن يتحول إلى كأية نوعية حضارية ثقافية وسياسية تنهض على أنقاض بنى قديمة تقليدية ، متأخرة ومتداعية ، كما يطمح لوكاتش لتشخيص الطموحات (النبيلة) للبطل الإشكالي ، فاختنق الهدف (العرفاتي) في خضم محيط من الانحطاط العربي (القروسطي) ، حيث الاستبداد والطغيان والفساد والجهل والمرض والفوضى وانبعاث دول ما قبل الدولة في صيغة إمارات استيلاء ، شرعيتها الوحيدة وقانونها الوحيد هو في استعادة نموذج التغلب والشوكة التراثي المعلن في صيغة (من اشتدت وطأته وجبت طاعته !) ، حيث هذه القاعدة العتيدة لا يمكن أن تشكل إلا قاعدة (راسخة) للهزيمة الدائمة ، والفاضحة كما توجها البطل الكاريزمي (الزائف) ضبع بغداد الذي غدا فأرا. المشترك الكارزمي الشعبوي ، القوموي ، الإسلاموي ، المؤسس في المدرسة الناصرية ، هومشترك كبير بين تلاميذ المدرسة الناصرية العرب في (العراق وسوريا وليبيا والجزائر وفلسطين) كل الكاريزمات التي حاكت الناصرية (المرجع والنموذج) كانت كاريكاتورية ، إذ هي تعيد تاريخ الناصرية ، بينما كاريزما عرفات هي الوحيدة التي كانت مأساوية ، لأنها الصورة الأصدق للنموذج الناصري وهي تستعيد تجربته التاريخية ، لكونها الوحيدة (الشعبية ، الجماهيرية ، العفوية) بدون صناعة الإعلام الكاذب وذهب سيف الدولة ، وذلك هو مشتركها الحقيقي مع الناصرية ، ولعل أهم ميزة لكاريزما الاثنين (ناصر- عرفات) ، أنهما سيسا الشارع العربي الوطني والقومي ، بينما الكاريزمات الأخرى ، كانت مصطنعة كاذبة ، زائفة ، فاسدة ، سارقة ، مرتشية لا ترتقي إلى مستوى الديكتاتورية الفردية (الناصرية ، العرفاتية) ، فكل من عداهما من الكاريزمات (الجماهيرية : تلاميذ المدرسة الناصرية) لا يعدون أن يكونوا مجموعة قرصان مهرجين ، فقد أنتجوا فعلا سياسيا ، هو بالضبط عكس فعل (الناصرية - العرفاتية) ، وهي تحويل مجتمعاتهم إلى مقابر جماعية حيث ممالك الصمت وجمهوريات الخوف.. الخ . ثمة مزية مميزة لشعبوية عرفات الكاريزمية ، التي رغم كل مساوئ إلحاق المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي بشخصه (شخصنة السلطة) ، فإن مزية عرفات هذه - لعل سبب ذلك الخصوصية الفلسطينية - تكمن في قدرته على جمع التيارات الوطنية فكريا وسياسيا حول شخصه من خلال مرجعية الشارع ، المجتمع ، وليس مرجعية السجن ، المعتقل ، التي هي إحدى المفارقات اللاعقلانية للناصرية ، إذ انها رغم احتضان الشارع والمجتمع لها ، فإنها أشرعت أبواب السجن المصري على مصراعيه لكل التيارات التي تختلف مع أيديولوجيا ساذجة لضابط صعيدي شاب ، مما سيؤسس نموذجا لجمهوريات الخوف اللاحقة ، التي لم يعد يربطها في مجتمعاتها سوى الوسيط البوليسي الأمني ، أي المراهنة على تخويف المجتمع لا على حبه !؟ هل هي اللاعقلانية ؟ أم مكر التاريخ ؟ هل السبب فينا أم في تاريخ خروجنا منه ، لندخل حوزة التراث نهائيا منذ ثلاثين سنة على يد أصحاب (الخصوصيات : صفاء جوهر الذات العربية والإسلامية من اللواحق التاريخية على الذات الجوهر) ، فكانت المقدمات الضرورية الممهدة للابن لادنية واشتقاقاتها وتفرعاتها ، لكنها تتوحد حول سلوك الطريق هبوطا ، هذا السلوك هبوطا لن يقود إلا إلى البربرية حسب نيتشه ، لترتسم حركة التقدم العربي في العقود الثلاثة في (التقدم نحو القهقرى) وفق تعبير مالارميه ! ها هو ياسر عرفات التي تعشقت في رمزيته فلسطين أو تعشق برمزيتها ، بعد أن غدت (فلسطين) الساحة التي تتكثف فيها جهود العرب الحضارية والثقافية والسياسية خلال أكثر من نصف قرن ، إذ قد حضرت في مكوناته (عرفات) كل ضروب الإيديولوجيا العربية في كل تلوناتها (بدءا من الليبرالية مرورا بالقومية مع إيمانية دينية إسلامية واضحة) ، تتعايش مع لونيات يسارية ، أتاحت ل (أبي عمار) أن يفترش كل الحيزات مهما ضاقت ، من موسكو إلى الرياض ، ومن واشنطن حتى هافانا ، دون أن يحسم خياراته ، بل كان خياره يكمن في عدم حسم خياراته ، فيما نسب إليه من خيار فلسفة (لعم). هذه الرحابة والاتساع ، هي الميزة التي وسمته خارج الكاريزمات العربية ، بما فيها الناصرية وأحاديتها الاستئصالية ، هذه الميزة التي حتمتها الخصوصية الفلسطينية ، هي التي فتحت الطريق لعرفات لكي يكون أول ممثل لمنظمة غير حكومية ، يلقي خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة - 1974 - ، في ظروف توازن متكافئ للقوى لم يختل بعد بين المعسكرين الشرقي والغربي في تلك الآونة. إن تجربة البطل الإشكالي عربيا الذي وجد نفسه في الطريق الأصعب في خيارات واختيارات التحرر الوطني ، وجد في طريقه الصخرة الأصعب (إسرائيل ) ، فكان عليه خلال خمسين سنة أن يدحرج صخرة (سيزيف) الإسرائيلية دون جدوى ، وعبثا حتى اليوم ، لكنه مع ذلك اكتسب من المجاز السيزيفي إرادة المعاودة من جديد ، التصميم على الهدف ، وهي إحدى السمات النوعية للشخصية الجديدة التي أنتجها زمن الحداثة ، ولعل هذه السمة هي التي تعطي وستعطي للشخصية الفلسطينية ميزة نوعية فريدة في التاريخ العربي الحديث ، تتمثل في مغادرته كهوف غيبيات المطلق القائمة على وعي مثنوي (إما الكل وإلا فلا) باتجاه فضاءات النسبي المتمسك بأهدافه وصراعه من أجلها مهما اتسمت بالسيزيفية. هذا البطل الذي اختارته الظروف ليكون نواة مركز الصراع العربي الإسرائيلي ، ارتقت به التجربة والممارسة ، ليكون بمستوى خصمه (إسرائيل) المتقدم سياسيا وعسكريا وحضاريا ، فجاوره وحاكاه وإن لم يتمثله بحكم المسافة الحضارية مع الآخر ، لقد جاوره عندما استطاع أن يتمثل الكينونة الشخصية للفرد القابل على حمل ممكنات التعدد والتعايش ، إذ تضم منظمة التحرير العديد من المنظمات : من اليسار إلى اليمين ، من الحداثي إلى التقليدي ، وحركة (فتح) كانت صورة مكثفة لهذا التعدد الوطني الذي كان يجد تنوعه وتعدده وأطيافه الفكرية والسياسية في وحدة المنظمة ، ووحدة القائد المتسع لكل هذا التعدد والتنوع والتغاير ، فكان القائد الوحيد المنتخب عربيا في المنتصف الثاني للقرن العشرين ، إذا استثنينا تجربة لبنان الصغير المغدور والموءود. لقد جاور نموذج الحداثة الإسرائيلي من حيث إنتاج الأطروحة المضادة في صيغة نظام ديموقراطي تعددي يستند إلى مرجعية صندوق الاقتراع ، لكنه لم يتمثل حداثة النموذج المضاد الإسرائيلي ، عندما حافظ على موروث الحشوة التقليدية لرؤيته الفكرية والثقافية والسياسية المحافظة للعالم التي زودته بموروث تاريخي عريق من الاستبداد الآسيوي الذي لا يتيح سوى لفرد واحد أن يمارس الحرية على حد تعبير هيغل ،ولهذا في ظل ديموقراطية ناقصة ، عرجاء ، واستجابة لضغوط الآخر الخارجية ، وثقل الموروث التقليدي القوموي الإسلاموي ، لم يتح لهذه الديموقراطية أن تستولد مؤسسات حديثة ، إلا بمقدار ما كانت نتاجا واشتقاقا لهذا المزيج (الديمو - شخصاني) ، الذي أتاح المجال لحالة محبطة من التردي الوطني ، يتمثل في الورثة من جهة ، الذين طالما اتهموا ويتهم أبناؤهم وعائلاتهم بالفساد والمحسوبية والرشوة ، والإثراء الفاحش على حساب دماء الشهداء وآلام الأسرى ، ومن جهة أخرى تردي الكفاح الوطني القومي الديموقراطي الحديث إلى مستوى تراثي (جهادي - استشهادي) أتاح المجال لشارون أن يسوّق عالميا بأن حل المشكلة الوطنية الفلسطينية لا يحل مشكلة العنف ، أو ما يسميه (إرهابا) لأن العنف الفلسطيني عنف ديني وليس عنفا وطنيا ، والعنف الديني لاحل له وفق الترسيمة الدينية - حسب شارون - سوى بدمار أحد الفسطاطين (الإيمان - والكفر) ومادام الأمر كذلك ، فإن شارون يعتقد أن لديه من القوة التقليدية والتكتيكية والإستراتيجة والنووية ، ما يرجح كفة (فسطاطه) على كل فساطيط إيمان العالم الإسلامي الملياري قاطبة ! لكن ثقتنا الكبرى بالشعب الفلسطيني أن يرتقي بإشكالية بطله الرمزي (عرفات) ، لتتحول إلى بطولة ملحمية لشعب لن يرث من الكاريزما العرفاتية سوى الثقة بالشعب ، لكن ليس عبر الالتفاف حول البطل ، بل حول صندوق الاقتراع ، بوصفه المرجعية الشرعية الوحيدة للقوة والبطولة والسلطة والدولة ، وإلا فإن أية دولة ستقوم مستقبلا للشعب الفلسطيني بدون الديموقراطية وصندوق الاقتراع ، لن تكون سوى هباب دولة ، دولة تنحل إلى مستوى السلطة العارية الغاشمة : سلطة الفساد والأوغاد أو سلطة الجهاد المستهترة بدماء العباد ، إذ لن تكون قادرة على إنتاج سوى معارضة على شاكلتها عنفا مضادا مطردا ، لن يتيح للعرب والمسلمين سوى مستقبل الكارثة أو البربرية أو الانقراض.