(كيف كنا؟) وما (ماذا سنكون؟) سؤالان دائماً ما يحاصران عقلي وينهشان ذاكرتي، يستفردان به تارات فيسومانه سوء العذاب وإن هو انعتق منهما تارة أصيب بمس جراء أهوال تعترض بصيص أمله الصعب النوال! أرى ذلك الثقب الذي يظهر من خلاله الفضاء الرحب ضيقه بازدياد! أرى ذلك المجهول الموحش المظلم طغيانه بازدياد! سؤالان عظيمان.. يجرجران وراءهما أمة وحضارة ويستقبلان أمامها مصيراً وغيباً معلوماً، سؤالان (كانا) سيمثلان (كياناً وهوية) إلا أنهما باتا قعر الشقاء وجرثومة البلاء!! لم لا؟ فواسطة العقد لم تكتمل.. بقي جوهر القضية ولبها بقي (يكون) (كنا) تمثل حضارة ورقي، فتوحات ونفوذ، علم وابتكار، ذي قار والقادسية وعين جالوت!! (سنكون) تمثل الغيب المعلوم، الإشراقة ما من مفر، جنودنا الحجر والشجر، النصر لنا والشر مندحر!! نعم.. جميلة تلك العقائد القطعية، ف(كنا) هي تلك العقيدة التاريخية والحضارية التي لا مجال لإنكارها وجحدها و(سنكون) هي تلك العقيدة الدينية التي لا مجال لتأويلها أو تحريفها.. ولكن تلك العقائد أضحت (عُقداً) لأننا نسينا (يكون) تعامينا عن كنهتنا الآن، حاضرنا وآنيتنا..أين؟ أن يعيش المرء على خلفية ضاربة في عمق التاريخ والحضارة ومتطلعاً لمستقبل (نصي) قاطع بالنصر والنجاة وناسياً أو متناسياً واقعاً ورثاً بائساً أليماً، فإنه ما من بد سيركن إلى غيبيات كان القصد منها بعث الروح وشحذ الهمم ولكنها وبفعل القراءة الخاطئة أضحت تلك المحفزات والمثيرات ضرباً من المخدرات والمثبطات!! سيركن إلى ماضيه مواجهة لحملة ازدراء وذل قافزا لمستقبله من واقع مظلم، ما يفضي إلى خلل وتصدع في أرضية ومعطيات الواقع الذي ننطلق منه.. ما يدعو ذلك لأن نستاءل هل لثقافتنا يد في انحطاطنا؟ ذلك أخشى ما أخشاه لا سيما وأن (العقل العربي) يجوز بل ويستحق أن نلحقه بالقسم الثاني من تقسيم (لالاند Laland ) للعقل: بين (عقل مكوِّن) أو فاعل وبين (عقل مكوَّن) أو سائد، والذي افترض فيه (الجابري) في سلسلة نقده للعقل العربي بقوله: (إن نحن تبنينا هذا التمييز فيمكن لنا القول إن ما نقصده ب(العقل العربي) هو العقل المكوَّن، أي جملة المبادىء والقواعد التي تقدمها الثقافة العريبة للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة. أو لنقل: تفرضها عليهم كنظام معرفي). فتركيبة العقل العربي تعيش ضمن إطار معين يفرض عليها الطموح للأفضل والارتقاء، ولأنه كذلك فلم يستسغ العقل العربي أن يعيش في مصاف الدون والثانوية ما جعله طارداً ولاهثا خلف كل منقذ وموح.. جميل ذلك ولكنه لم يحسن الطلب والسعي، فليت العقل العربي فقه واقعه وشرحه وليته بحث واكتشف انه بواقعه هامش وإن ارتقى فهو حشو، ليته أقر بظلامية حاله، وليته أدرك أنه هو من يصنع حاله ويجسد وظيفته، لا إرث مضى ولا غيب يرتجى.. لو أدرك لعرف أن ثقافته باتت كالطوق الملتف حول عنقه إن هو أراد الانعتاق زيد في القيد.. ذلك بسبب كثرة تغنيه وعزفه على وتر (كنا) و (سنكون) فكثر نشازه لأنه نسي أو تناسى الوتر الأهم (يكون) لأنه تعامل مع ماضيه ومستقبله بوصفهما حقائق جامدة ومادة أولية دون أن يشتق منهما العبرة بالمحافظة على القمة لا مجرد اعتلائها، العبرة بالمد والبسط والاطراد لا المراوحة. لقد أصبح الأمر ملحاً لأن تجاوز تلك الطريقة البدائية والمترهلة في قراءاتنا لماضينا ومستقبلنا لقد بات الأمر أكثر إلحاحاً لأن نبدأ بحاضرنا ونعمل فيه الجرح والتعديل، نعمل فيه الفتق والرقع، يجب أن نلتف إلى حاضرنا بوصفه ميداننا الذي نصنعه ونبز به على غيرنا، فثقافة الرهن والارتباط التي أنهكت عقول الجميع حان وقت تجريمها وإعدامها.. فليت قومي عقلوا أن فترة (الانقطاع) التي امتدت ما بين سقوطيْ بغداد (656ه- 1424ه) جعلتنا غرباء على ماضينا ومستقبلنا، فلنوجد السبيل بينهما بنبش ودك حاضرنا، وحتى لا نضطر لأن نسأل أنفسنا يوما من الأيام- تحسراً وألماً - (نكون) هل تاهت بين (كنا) و (سنكون)؟.