كلما لاحتْ في أفق الذكر أو الفكر أو الخيال كلمةُ (البيروقراطية)، تذكّرتُ معها(مقولة) أمير الشعر المتنبّي: (أنام ملء جفوني عن شواردها..) إلى آخر البيت! ولو كان ل(البيروقراطية) لسان ينطقُ، لتمثلتْ بهذا البيت الخالد.. كما فعل صاحبه قبل ألف عام! بل لو كان هذا الشاعرُ العبقريُّ حيّاً، لخَلعَ على هذا (المصطلح) أبياتاً تختزلُ معاناة الناس منه! *** وفي ظني المتواضع أن البيروقراطية حالة نفسية لا إراديّة، قبل أن تكونَ آليةً تخْضَع لسيطرة العقل وإرادته، ولو كانت البيروقرطيةُ شيئاً غير ذلك، لما طرحت اليوم، وقبل اليوم، قضية يأرقُ لها المنظرون ويسهرون جرّاها ويختصمون! *** أقول إنّها حالة نفسية، بدليل أن الناس يختلفون حولها، فهْماً وتشخيصاً وعلاجاً: فمن الناس من يرى أن البيروقراطية شر مستطير، والحلُّ عندهم أن تجتث من الإدارة، فلا يبقى لها أثر ولا ذكْر، وهذا موقف (رومانسي) أحادي الرؤية يقيس الأمور بلونين لا ثالث لهما! ومنهم من يرى أن البيروقراطية ليست شراً في كل الظروف والأحوال إلا عندما نريدها نحن البشر المستهلكين لها أن تكون كذلك! فالرجل منا أو المرأة، قد يتمنى أن تُقضى حاجته في زمن قياسي، دون قيد ولا قاعدة، وينسى في غمرة احتجاجه، أن القيود والقواعد، في حدّها الأدني، ما وضعت إلا لترتيب المصالح وتقنينها، فلا يهدر حق لصالح باطل، ولا يُظلم امرؤٌ، لحساب آخر، ولولا هذه القيود والقواعد، لساد الظلمُ.. وعمّت الفوضى! هنا تكون (البيروقراطية) في حدها الأدنى، (سياجاً) يدرأ الظلم، ويقنن العدل! *** وفي المقابل، هناك الموظفُ الذي يعلو ويغلو غلواً كبيراً في تطبيق (الفروض) و(السنن) و(النوافل) البيروقراطية، في تعامله مع الناس، إما تسويفاً في الوعود لألف حاجة في نفس ألف يعقوب، أو تعطيلاً للأداء لغياب القدوة والرادع، أو تحكيماً للريبة والشكّ في كلّ دقيق وجليل من الأمور، يتصل بمصالح الناس، وموظف كهذا يخلعُ على البيروقراطية أقبح صفة، ويدفع الناس إلى تحكيم نزعة (الحكم اللإإرادي) لها، كرهاً وتعميماً وتشهيراً ليصبح مصطلح البيروقراطية رديفاً لمعانٍ تصادر من المرء كرامته وإنسانيته، ولتتربع في الخيال المريض غولاً كاسراً، يُحسبُ له كلّ حساب، حقاً وباطلاً! *** إن التقنية الحديثة قادرة بلا ريب على تقليم بعض اظافر البيروقراطية بتسهيل تخزين المعلومات واستدعائها، وتيسير بعض الإجراءات النمطية في عمليات الأداء اختصاراً وترشيداً، ونحو ذلك. *** والتقنية الحديثةُ قادرة على تحسين (سمعة) البيروقراطية، بجعل الجهاز أكثر استجابة لهواجس الناس، لكن هذه التقنية لا تستطيع أن تقتحم الصدور المريضة بدرن الخَور أو القصور أو الإنحراف، الذي يؤثر سلباً على الأداء، فيعطّل مصالح الناس، ويجرح كرامة الآدمي في أعماقه! *** وفي الوقت نفسه، مطلوب من (المستهلكين) للبيروقراطية أن يكفوا عن الظن بأن (تغييب) البيروقراطية هو ضالة الخلاص لهم مما يعانون، فهي في نهاية المطاف، وسيلة لا غاية، إن أحسنت الظن بها والتعامل معها، أحسنت هي إليك، وإن أسأت إليها، بارت، وأساءت إليك، والتقنية الحديثة، وعلى رأسها سيدها المبجل (الكمبيوتر) أو الحاسوب، لا تستطيعُ أن تُلغيَ الحاجةَ إلى القواعد والضوابط والنماذج التي يتطلّبُها أداءُ أي خدمة، وخلافُ ذلك يعني الفوضى التي لا حول لنا عليها، ولا حيلة لنا فيها!!.