يهوى ذلك الشيخ الوقور مجالسة ابنه ذي الثمانية عشر ربيعاً فيمازحه ويلاطفه حيناً ويناصحه ويصارحه حيناً آخر ومرات يغلظ ويشد عليه بالقول حتى يكاد يقطع أنفاسه. وبالطبع فالصبي يتقبل جميع المواقف ويأنس بجميع اللحظات التي يقضيها مع والده حتى وان قسا عليه وعنفه في بعضها فهو يعرف والده تماما ويعلم علم اليقين ان غضبه وقسوته نتاج محبة ومودة وليس كرهاً وعداء. وبالطبع شعوره وتفكيره بهذه الطريقة ليس شيئاً فُطر الصبي عليه بل هو أمر اكتسبه وتشرَّبه منذ صغره وحفظه كما يحفظ اسمه وأتقنه كما يتقن أحدنا فن صناعة التشكي والتظلم والمخاصمة لأتفه الأسباب وكما يجيد البعض فن السب والشتم والغيبة والقطيعة. عذراً ان تقرأ هذا ولكنها بعض الحقيقة فنحن تعودنا على ذلك حتى أصبحت جميع تلك الفنون القبيحة جزءاً من التركيبة الشخصية للسواد الأعظم منا وان اختلفت من شخص لآخر في طريقة اخراجها واستخدامها في التعبير عما تكنه مشاعره فالبعض بفضل الله يمكنه السيطرة عليها ولكنها مع الأسف مسيطرة على الكثيرين. أعود لذلك الشيخ الذي كان ينصح ابنه في إحدى المناسبات حيث قال له: أعلم يا بني ان أهم مافي الانسان ردود أفعاله وتصرفاته تجاه الآخرين، والناس يختلفون في التعبير عن ردة الفعل فمنهم من يحاول كبتها لكنه لا يستطيع لذلك سبيلا وهي لا تطيق ولا تصبر على البقاء في أجساد الكثيرين فتجدها تجاهد من أجل الظهور فتراها تبدو من خلال تقطيبات الجبين واحمرار الوجه وتصبب العرق وارتعاش الأطراف وتلعثم اللسان. وهي تكاد تقتله بعد ان خنقته وشلت تفكيره وفجرت الدماء في أطرافه واجبرت مضخته على دفع الماء بقوة إلى جميع أجزاء جسده بكميات لا يقوى على استيعابها فتصيبه في مهلك وتسبب له من العاهات والأمراض ما الله به عليم. فقال الصبي: يا إلهي هذه حال تلك الفئة التي آثرت الصمت وعدم الرد على الإساءة بمثلها، فكيف هي ردود أفعال الأصناف الأخرى؟ قال الوالد: هناك فئة من الناس تحاول الرد مباشرة على الإساءة بمثلها أو بما هو اشد وأقسى من الاعتداء نفسه، آخذة مبادئها في التعامل مع الآخرين وطريقتها في الرد على جهالتهم من قول الشاعر زهير بن أبي سلمى المزني: (ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم) فقال الابن: اليس من حقهم الانتصار لأنفسهم استناداً لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} فرد الأب بالطبع يا بني الله لم ينههم عن ذلك ولكن يجب أن يكون الرد بالمثل فلا يزيد عنه من باب الانتقام كما هو حال الكثيرين، ثم ان الله سبحانه بيّن ان العفو والصبر خير كما قال سبحانه في تتمة الآية التي ذكرت { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وقوله تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }، وأيضاً يقول واصفاً المؤمنين {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وهو وصف ينطبق على حال الفئة الأولى التي تكتم غيظها ولا تظهره وان بدت ردود الأفعال على الوجه والأطراف فلا بأس لان هذا خارج عن الإرادة في معظم الاحيان. ثم ان الله عز وجل يقول {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ،إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. وهم أولئك المعتدون على أموال واعراض ودماء المسلمين بغير حق وتلك هي الفئة الثالثة. ولكن قبل أن احدثك عنهم دعني أخبرك بما روي عن أحد السلف ويقال له محمد بن واسع حيث سأله مروان بن المهلب وكان اميراً على البصرة في ذلك الوقت عن حاجته يقول محمد قلت: حاجتي ان استطعت ان تكون كما كان اخو بني عدي، قال ومن أخو بني عدي؟ قال: العلاء بن زياد استعمل صديقاً له مرة على عمل فكتب اليه: اما بعد، فان استطعت ان لا تبيت الا وظهرك خفيف وبطنك خميص وكفك نقية من دماء المسلمين واموالهم، فانك اذا فعلت ذلك، لم يكن عليك سبيل. ثم تلا قوله تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. ثم انظر يا بني وتأمل كيف كان سلفنا يوصي بعضه بعضاً ويشدد على أهمية عدم المساس بأموال المسلمين واعراضهم ودمائهم. وتذكر قول الفضيل بن عياض «اذا اتاك رجل يشكو رجلاً فقل: يا أخي اعف عنه فان العفو أقرب للتقوى، فان قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن انتصر كما امرني الله عز وجل، فقل له: ان كنت تحسن ان تنتصر والا فارجع إلى باب العفو فانه باب واسع، فان من عفا واصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. وليكن لك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه خير عبرة وموعظة حيث قال: ان رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي وقام، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله انه كان يشتمني وانت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: انه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه قوله حضر الشيطان فلم اكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا ابا بكر ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله، الا اعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة الا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، الا زاده الله عز وجل بها قلة، رواه الامام أحمد. فقال الابن: ولكن يا أبي كيف يمكننا السكوت والتغاضي وعدم الرد على من يسيء الينا؟ فان كان ابو بكر رضي الله عنه وانت تعلم من هو أبا بكر لم يصبر في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بنا نحن ابناء هذا الزمن الفقير للقيم والمبادئ والسلوكيات الحسنة مقارنة بذلك الرعيل الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه وهم خير القرون. فقال الأب: ولكن يجب عليك يابني ان تعلم انك وجميع من قرأ أو سمع عن ذلك الموقف الذي حدث لأبي بكر في وضعية أفضل من الوضعية التي عاشها ابو بكر تلك الساعة. فقال الابن مقاطعاً: كيف يا والدي نكون أفضل من أبي بكر؟! فرد عليه الأب بسرعة موضحاً اللبس الذي حصل: يابني لم أقل اننا أفضل من أبي بكر رضي الله عنه فهو صاحب رسول الله ومصدقه ورفيقه في الغار، ولكن قصدت الحالة فقد حدث ذلك الموقف لأبي بكر دون علمه بوجود ملك يدافع عنه، فلم يصبر ودافع عن نفسه، ولو علم ابو بكر بوجود ذلك الملك لما تفوه بكلمة واحدة. ونحن حين يُجهل علينا يجب ان لا نرد لان هناك من يدافع عنا ومن هذا المنطلق اقول إنا وضعيتنا أفضل لاننا نواجه الموقف فنعلم الحالة كاملة اما ابو بكر فلم يكن يعلمها مثلنا حين وقعت ولكنه ادرك كل شيء بعد انتهاء الموقف وتنبيه المصطفى صلى الله عليه و سلم وتوضيحه لملابسات ما حدث. فقال الابن صدقت يا أبتي فمن يعلم عن هذا الحديث لايمكن ان ينتصر لنفسه فيستبدل شيطانا يجره إلى الخطيئة بملكٍ يدافع عنه ويناصره. فقال الأب اعلم يا بني حفظك الله ورعاك ووفقك وجميع أبناء المسلمين ان هناك فئة ثالثة مختلفة تماماً عن صاحبتيها السالفتين وهي ثلة أحمد الله قبل كل شيء انها قليلة في مجتمعنا ولكن صوتها مسموع وصداه يقرع الآذان في كل مكان، أفعالها مشينة منبوذة من الجميع وجرائمها بشعة تفتك بالبريء قبل المذنب وبالصغير قبل الكبير وتصيب فتفتك خطأ اكثر من فتكها عمداً وتتخبط بعماها فتخرب هنا وتدمر هناك قبل ان تصل لمرادها وهو بعيد بل محال التحقيق صعب المنال. فقال الابن: اتقصد من يطلق عليهم الارهابيون؟ قال الأب بالضبط هم تلك الفئة التي تؤمن برأي واحد وتعتقد وتجزم به ولا ترى سواه وتريد الجميع ان يقره وينصاع ويرضخ له ولا ترى مناصاً أو مفراً من تحقيقه على المجتمع بأسره بغض النظر عن أجناسه وثقافاته ورغباته وتوجهاته. فإن تحقق ذلك الشيء فذلك عائد لهم وحدهم ولجدارتهم وشطارتهم ومقدرتهم على الإقناع وإن لم يتحقق لأي سبب كان فالويل كل الويل لمن عارض حتى لو كان المجتمع بأسره، فلابد من تحقيق المطلب حتى ولو بالقوة فان كان مصدر المعارضة حاكم كفروه وطالبوا بالخروج عليه، وان وافقه عالم سفهوه وقالوا باع دينه بعرض من الدنيا، وان ايده مفكر ومثقف جهلوه وقالوا علماني أو ماركسي يتآمر على الأمة ويريد لها ان تهوي في مستنقعات الرذيلة وتسلك دروب الردى والانحلال. اما ان كان المجتمع معارضاً لأفكارهم ومخططاتهم، قالوا عنهم عوام جهلة يساقون إلى مذابحهم وهم لا يشعرون ولا بد من انقاذهم من الاخطار التي تحدق بهم فهم لا يعرفون ما يضرهم ولا ما ينفعهم غير مدركين للكيفية التي يحققون بها مصالحهم وينالون من خلالها حرياتهم. فقال الابن أليس لهم الحق في المطالبة بحقوقهم وعلينا جميعاً سماع كلامهم وتفهم آرائهم؟. فرد الأب قائلاً: بالتأكيد فلكل فرد في اسرة وعضو في جامعة رأي لا بد من سماعه ومطلب يجب تحقيقه بشرط ان يدخل في حدود المعقول والقابلية للتنفيذ وهو ما لا ينطبق على مطالب تلك الفئة. فقال الابن: ولِمَ لا نناقشهم ونعلمهم باستحالة القبول بمطالبهم لانها غير قابلة للتنفيذ؟ فقال الأب: هم يعلمون ذلك ولكن نظراً لهشاشة موقفهم وضعفه فهم يتهربون من المواجهة ولا يرغبون في النقاش. فقال الابن اذا كانوا كذلك فكيف يكون لهم اتباع ومناصرون يشاطرونهم نفس الاهتمامات والأفكار والآراء بل يزيدون عنهم بالتضحية بأنفسهم في سبيل الوصول لمبتغياتهم؟!!.. فقال الأب: انهم يعملون في الظلام فهم كالخفافيش لا يظهرون في وضح النهار ولا يقتربون من العقلاء والمتعلمين بل تجدهم يختارون ضحاياهم بعناية ليكونوا لهم اتباعاً ومنفذين فيشترطون فيهم ثلاثة شروط ليست صعبة المنال، أولاها أن يكون التابع في سن المراهقة مابين الخامسة عشر والخامسة والعشرين تقريباً فهو متحمس وقابل للانصياع والتطوير ويخاطر بكل شيء حتى حياته، وثانيها الجهل وقلة العلم لحشو رأسه بمايشاءون من افكار خاطئة ومعتقدات فاسدة ومبادئ هدامة، وثالثها السذاجة والسطحية وعدم وجود هدف يسعى اليه أو مطلب يريد تحقيقه. وبهذا يكون قد تشكل لديهم شخص يحمل بين اذنيه ارضية خصبة يمكن زرعها بما يريدون وعقلية ساذجة يمكن حشوها بما يشاءون قبل ان يقوم هو بنفسه وبكل طواعية بوضع الحزام الخاص بالمتفجرات حول خاصرته أو قيادة السيارة المفخخة إلى المكان المراد. فقال الابن: اذا يبدو اننا اغفلنا جانباً مهماً في حديثنا عن الارهاب وهو ذلك الشاب الساذج ذي المستوى الدراسي المتدني العاطل عن العمل. فقال الأب: هذا صحيح والقصور موجود في هذه الناحية ويجب على الجميع التكاتف للأخذ بيد ذلك الشاب وعدم تركه لقمة سائغة في أفواه اولئك المنتفعين الذين يريدون استخدامه في الوصول لمبتغياتهم وتحقيق اهدافهم. فقال الابن لي ملاحظة مهمة يا أبي وكلي امل ان لا تغفلها وهي اني ولكثرة مجالستي لك وحديثك لي عن طفولتك وشبابك وكيفية تعامل والديك معك، أرى ان البون شاسع في اساليب وطرق معاملة الأبناء في زمننا الذي نعيشه مقارنة بالأزمنة الماضية ومنها زمنكم في كلتا مرحلتيه الطفولة والشباب حيث تعامل الوالدين مختلف تماما وكذلك العلاقة بين المدرس والطالب في المدرسة ونظرة المجتمع كذلك، وأظن اقراني جميعهم يحظون بنفس المعاملة ويلحظون التغيير الحاصل ويتفاعلون معه ويطالبون بالمزيد منه، ولكن الإشكال يكمن في ان البعض لم ينتبه لذلك ولم يلحظه بعد فتجده يتعامل مع الجيل الحالي من الشباب بنفس الطريقة التي كان ينتهجها قبل عشر سنوات وينظر اليهم بنفس النظرة الدونية ويصادر آراءهم ويسلب حرياتهم في التعبير عن افكارهم وتحقيق طموحاتهم واحلامهم، متناسياً انهم جيل الانترنت والفضائيات والاتصالات بأنواعها، فهم مختلفون تماماً عن تلك الاجيال التي سبقتهم، فوصولهم للمعلومة والحقيقة سهل، وأسهل منه ايصال كلمتهم للجميع بعدة وسائل وطرق مع سهولة التواصل بينهم. فقال الأب: صدقت يا بني لذا أرى ان على الجميع دراسة هذا الجانب الذي ذكرت وفهمه ومحاولة التعايش معه واحتواء جميع الشباب وكسبهم بدلاً من تجاهل ذلك وتركهم بلا موجه أو قدوة حسنة فيتخبطون ويضيعون في طريق البحث عن الذات والغاية دون وجود من يدلهم ويرشدهم إلى الطريق القويم فيسعون لذلك بأنفسهم مما يؤدي لانقسامات ينتج عنها آثار سلبية على المجتمع ربما تتسبب في تعطيل عجلة نموه وتطوره وتقدمه وتعيق مسيرته وكل ذلك يعود لأسباب كانت واضحة سهلة الحل لو تم الالتفات اليها في حينها واحتوائها وعمل الحلول اللازمة لها. فقال الابن: أتمنى ذلك فعلاً يا أبتي وأرجو أن يُلتفت الينا معشر الشباب فنحن وقود كل عمل سواء كان نافعاً صالحاً للأمة والمجتمع، أم كان فاسداً مدمراً يضر بالجميع. والكاسب الحقيقي من فاز وظفر بنا فسيسهل عليه الوصول لأهدافه ونيل مبتغياته وتحقيق مآربه.