سيطر القطاع العام على هيكل الاقتصاد عندما كانت مؤسسات الدولة تهيمن على النشاط الاقتصادي وتمثّل مركزاً تتمحور من خلاله فعاليات المجتمع وتنصهر في بوتقته عناصر الإنتاج المختلفة، ومع ظهور الأيديولوجية الرأسمالية التي اعتمدت على فكرة تحرير النشاط الاقتصادي وتفعيل دور الفرد وترسيخ مبادىء السوق الحر، كما جاء في مؤلفات عرَّاب الاقتصاد الحديث، الإنجليزي آدم سميث، خرج علم الاقتصاد بفكرة ونهج القطاع الخاص. وانقسم عالم الاقتصاد إلى قطبين، اشتراكي ورأسمالي، وتبنَّى القطب الاشتراكي منهج القطاع العام لتشكِّل فعالياته هيكل الاقتصاد وتقرِّر الدولة ماذا يُنتج؟ وكم يُنتج؟ وكيف يُنتج؟ وتُحدِّد الاسعار وتُراقب الاسواق وتُنظمها وتضع الضوابط والقوانين وتُقرِّر في الحاضر وتخطّط للمستقبل، وعلى العكس من ذلك، تبنّى القطب الرأسمالي حرية القرار الاقتصادي وأوكله للفرد وترك للسوق تحديد معايير الإنتاج وآلية التسعير واستنباط الضوابط والقوانين، ورحَّب الاقتصاديون بفكرة آدم سميث الخلاَّقة التي جسَّدت روح الأيديولوجية الرأسمالية في تصورها بأن هناك يداً خفية تُدير الاقتصاد بما يكفل تحقيق المصلحة الفردية دونما أي تعارض بينها وبين مصلحة المجتمع، وجاء الاقتصادي الإيطالي باريتو ليقرِّر بأن رفاهية المجتمع لا تتعارض مع رفاهية الفرد، والمنطق الذي ارتكز عليه الاقتصادي الإيطالي هو أن زيادة رفاهية الفرد تؤدي إلى زيادة رفاهية المجتمع شريطة ألا يضر مكسب فرد بفرد آخر في المجتمع، أي الا تكون رفاهية فرد في المجتمع على حساب فرد آخر، وهذا منطق عملي علمي صريح. خلاصة الأيديولوجية الرأسمالية هي تمحورها حول الفرد وإثراء دوره في النشاط الاقتصادي، ولعل هذه الرؤية هي التي تفسر سقوط الأيديولوجية الاشتراكية ومبادىء الشيوعية لأنها همّشت دور الفرد وتجاهلت غريزة الملكية الخاصة وفوارق القدرات والرغبات بين الناس، وأي فكر لا يستوعب طبيعة البشر لا يمكن أن تبقيه القوة أو تحميه السلطة، إذ يفرض التوازن الاقتصادي رغبة الناس في الأجل الطويل بآلية السوق، وهي القوة والسلطة الأكبر التي تفرض تواجدها بشكل عفوي إلى حد كبير. وفي مواجهة هذه الرؤى المختلفة، حفَّز انحسار دور مؤسسات الدولة في النشاط الاقتصادي وإهمال القطاع الخاص للنشاط الاجتماعي على نمو فكرة القطاع الاجتماعي ليتكوّن هيكل الاقتصاد من ثلاثة قطاعات، العام والخاص والاجتماعي، وجاء هذا التغيُّر ليتسق مع الواقع الذي فرض لكل قطاع منهم في الاقتصاد دوراً لا يقل أهمية عن الآخر في ظل متغيرات تحوّلت إلى ثوابت وقواعد يأخذ بها المجتمع الحديث ويتفاعل معها بشكل يومي ومستمر. وإذا كان القطاع الاجتماعي لا يهدف إلى الربح، إلاَّ انه يمثل محوراً اقتصادياً مهماً في هيكل الاقتصاد ويرتبط بشكل مباشر باستغلال الموارد الاقتصادية بصورة افضل، وتفعيل الطاقات البشرية باستثمار أوقات الفراغ وتفجير طاقات الإبداع والعزف على وتر المشاركة الاجتماعية والبذل والعطاء في إطار التركيز على دور الفرد في المجتمع كعنصر فعَّال. هذه الفكرة هي تغيُّر طبيعي لإنقاذ الإنسان من هيمنة المنظومة الاقتصادية التقليدية التي وضعته بين مطرقة القطاع العام وسندان القطاع الخاص، ولم تسأله ماذا يريد، وهذه هي نتيجة طبيعية لتهميش دور الفرد أو تغييب مصلحة المجتمع، والتوازن سمة اقتصادية يؤكدها الواقع، والاقتصاد علم اجتماعي يتعامل مع الفرد كتعامله مع الأرقام بنهج موضوعي فريد. رئيس دار الدراسات الاقتصادية- الرياض