أما بعد فيا أيها الاخوة الكرام الأحبة ويا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثنا اليوم بإذن الله عز وجل حديث عن صفة البغي هذه الصفة والتي فسرها العلماء وبينوا معناها التي ذكرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المناوي رحمه الله: (البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق) البغي هو طلب الاستعلاء، إذاً: هو فرع من فروع الكبر، والاستكبار والعياذ بالله عز وجل. وقال التهانوي رحمه الله: الباغي شرعا هو الخارج عن طاعة الإمام الحق. وهذا ايضا من تعريف البغي أي الخروج على أئمة المسلمين، فإن في ا لخروج عليهم مفاسد عظيمة، وأضراراً جسيمة، فلذلك شدد الشارع الحكيم على ذلك. قال ابن حجر رحمه الله: (وأما البغي بمعناه العام، أي: طلب الاستعلاء بغير حق فهو أيضا من الكبائر الباطنة). فالبغي كبيرة من كبائر الذنوب، وكما أن هناك كبائر ظاهرة مثل شرب الخمر والزنا وغير ذلك، فهناك كبائر باطنة كالكبر والغرور والبغي وغير ذلك، فهو من الكبائر الباطنة التي يجب على المكلف معرفتها ليعالج زوالها لان من كان في قلبه مرض منها لم يلق الله عز وجل والعياذ بالله بقلب سليم (وهذه أي الكبائر القلبية يذم عليها أكثر وأعظم مما يذم على الزنا والسرقة وغيرهما من كبائر البدن) وذلك لعظيم مفسدتها وسوء أثرها ودوامه، لأنه يدوم أثرها وإذا دامت هذه الكبائر صارت حالا وهيئة راسخة في القلب، بخلاف آثار معاصي الجوارح التي تزول بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة. (أما البغي بمعنى الخروج عن الإمام فهو أيضاً من الكبائر خلافا لبعضهم يعني خلافاً للخوارج لما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا يحصى ضررها ولا ينطفئ شررها) انتهى كلام الإمام ابن حجر. وقد جاء ذم البغي في القرآن الكريم في آيات كثيرة نجتزئ جزءاً منها. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فهي من الأمور التي نهى الله عنها وهي من الفحشاء وهي من المنكر، وهي من الشر المستطير والعياذ بالله عز وجل. والبغي بمعنى الخروج عن الإمام كما قال الفقهاء والعلماء ولو كان بتأويلٍ سائغ ولو على إمام جائر فهو احد الكبائر التي اعدها أئمة المسلمين من كبائر الذنوب، أما إذا لم تكن بتأويلٍ سائغ فهي قطع للطريق وليست بغياً. ويقول عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ويقول عز وجل في هذه الآية التي هي مدار الأحكام في قتال أهل البغي في قوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } هذه الآيات أصل في قتال أهل البغي، ودليل واضح على أنه أول ما ينبغي للمسلمين إذا رأوا من هؤلاء الناس أصحاب الأهواء والآراء التي تفرِّق الأمة وتشتتها وتمزقها أن ينصحوهم، وأن يذكروهم، وأن يبصروهم كما فعل علماؤنا مع هذه الفئة التي ظهرت في أيامنا هذه، تضرب بَرَّ الناس وفاجرها، وتقتل هذا، وتكسر ذاك، وتخرب هنا وهناك، عندما وعظوها في التلفاز وفي الإذاعات وفي الجرائد والمجلات، وبينوا الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جُرم هذا الأمر، وعن فظاعته، وعن خبثه، وعن أنه طريق من طرق الشيطان الرجيم والعياذ بالله عز وجل وما زال بعض من أولئك من أصحاب الأهواء الذين تملكهم العناد، وعَمَت بصائرهم عن أن يتبصروا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يسمعوا إلى كلام العلماء، وإلى كلام الفقهاء، وإلى كلام الدعاة الناصحين المخلصين فعند ذلك كما قال الله تبارك وتعالى: { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } أي: فيجب على المسلمين أن يعاونوا ولاة الأمر على القضاء على هذه الفتنة، وإلا أكلت الأخضر واليابس، أن يعينوهم، ومن هنا قال العلماء بأن إعانة ولي الأمر على القضاء على هذه الفئة الضالة التي تريد اثارة الفتنة وتمزيق الأمة وتشتيتها، وهي مفرقة ومشتتة وليست بحاجة الى من يزيدها تفريقا وتشتيتاً وتمزيقاً واجب، فالواجب أن نعين ولاة الأمر على ذلك، ومن رأى من هؤلاء الناس، ومن عرف ومن سمع ومن اطَّلع فعليه أن يبلغ ولاة الأمر، لأن فسادهم ليس فقط على أنفسهم وإنما على المجتمع فمن فعل ذلك فقد ابرأ ذمته، لأنه قطعٌ لدابر الشر، بل هو أحسن إليهم أيضاً لأنه حجزهم عن الظلم، وحجزهم عن أن تمد أيديهم إلى القتل، فيزدادوا إثماً على إثمهم، وذنباً على ذنبهم، فمن أبلغ عنهم، ومن حرَّج عليهم فلا شك أنه مأجور، ولاشك أنه أنقذهم وأعانهم على ما فيه الخير والصلاح، وأنقذهم من ان يتمادوا في طريق الشر فيهلك الناس ويهلكوا أنفسهم والعياذ بالله. وفي الحديث الصحيح عن عمرو ابن عبسة رضي الله عنه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل من ساعةٍ أفضل من ساعة؟ وهل من ساعةٍ يتقى فيه فقال صلى الله عليه وسلم (لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك إن الله عز وجل يتدلى في جوف الليل، فيغفر إلا ما كان من الشرك والبغي)(1) فالبغي ذنب عظيم يحرم المسلم مغفرة الله العامة التي تشمل كل الناس المسلمين المؤمنين حتى العصاة إلا المشركين لعظيم جرمهم وشركهم بالله، وإلا البغاة لإفسادهم في الأرض والعياذ بالله عز وجل، وفي الحديث الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قال عليه الصلاة والسلام. (سيصيب أمتي داء الأمم) فقالوا يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال (الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي) حتى يصل إلى الجرأة على حمل السلاح على المسلمين، هذا هو البغي، إلى الجرأة على الخروج على إمام المسلمين، إلى الجرأة على تفريق كلمة المسلمين، وتمزيق صفهم، وإضعاف قوتهم، وهذا لا يسُرُّ إلا أعداء الله ولا يسر إلا أعداء المسلمين، ولا يفيد هذه الأمة في صغير ولا كبير، وكأن الكبر طريق للبغي، وكأن الإعجاب بالرأي طريق للبغي، وكأن العناد طريق للبغي وكأن الإعجاب بالنفس طريق للبغي، فهذه الأمراض القلبية مما يجب على المسلم أن يطهر قلبه منها، وأن يجاهد فيها هي من أعظم الجهاد؛ من أعظم الجهاد أن تجاهد هواك، وأن تجاهد نفسك فإذا عجزت عن جهاد نفسك وهواك فأنت على جهاد أعداء الإسلام أعجز وأضعف، أما إذا استطعت على جهاد نفسك فإنك ستقدر على جهاد أعداء الإسلام. هذه الفتن التي تموج بهذه الأمة تستدعي منا العودة الى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نترك أهواءنا، وأن نترك ما في نفوسنا من الأمراض والكبر والاستعلاء والغرور؛ الغرور الذي أعمى قلوب كثير من الناس فظنوا أنهم أفضل من غيرهم، وأنهم أعلم وأصلح وأحكم، وأن غيرهم حتى العلماء، وأن غيرهم حتى الدعاة، حتى طلبة العلم، لا يفهمون شيئاً ولا يعرفون معنى الجهاد، ولا يعرفون معنى الدفاع عن الإسلام، إنما هم فقط الذين يعرفون هذا المعنى، ويفهمون هذا الفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذا من الكبر، وهذا من الرياء، وهذا من الغرور، وهذا من الإعجاب بالنفس الذي أهلك الأمم من قبلنا. وفي الحديث الصحيح أيضا عن أبي بَكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة؟ من البغي وقطيعة الرحم)(2) ذنبان عقوبتهما عاجلة في الدنيا مع ما ينتظرهما من العذاب في الآخرة والعياذ بالله عز وجل، وهذا دليل على أنها ذنوب عظيمة، وعلى أنها ذنوب كبيرة، ولذلك يعجل الله عز وجل بالعقوبة في الدنيا: قطيعة الرحم، والبغي. قطيعة الرحم: تقطع ما بينك وبين أقاربك وأرحامك والبغي: يقطع ما بينك وبين المسلمين ويمزقهم ويقطعهم إربا إربا والعياذ بالله. وروى مسلم وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى، لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)(3) دلنا على العلاج إن أردنا العلاج من البغي فعلينا أن نلجأ إلى التواضع أن نتواضع لله عز وجل وأن ننظر إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نسمع إلى أقوال أهل العلم وأن نسمع إلى أقوال من هم أعلم منا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء العلماء الذين بينوا وبصروا وشرحوا وفسروا، نتواضع لله عز وجل ونتواضع في أنفسنا، ونعرف أن ما عندنا من العلم ليس بالشيء الكبير، وإنما هو قليل أمام هؤلاء العلماء فنتواضع ونقبل ونأخذ بهذا العلم، وبهذه البصيرة التي تحمي حوزة المسلمين وتوحد صف المسلمين وتقوي مكانة المسلمين بإذن الله تبارك وتعالى. وفي الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب صدوق اللسان) فقالوا: يا رسول الله صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي، ولا حسد) أمراض القلوب التي غفلنا عنها عالجنا كثيرا من أمراض الجوارح، ونسينا أمراض القلوب حتى بدأت تفتك بنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلابد للمسلم الصدوق من ان يطهر قلبه من البغي ومن الغل ومن الحسد ويتواضع لله عز وجل وينصف ويتقي الله عز وجل ولا يتفوه بكلمة إلا بما يرضي الله تبارك وتعالى قال سعيد بن جبير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } قال أي لا يريدون بغيا. فالذي يريد البغي إنما يريد العلو ويريد الإفساد، وهذا يحرم صاحبه من نعيم الآخرة وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: ثلاث خصال من كن فيه كن عليه إذا كانت فيه واحدة من هذه الثلاث فهي عليه ثم قال: البغي والمكر والنكث من كان فيه واحدة من هذه فهي عليه وقرأ قول الله عز وجل في الأولى: {يّا أّيٍَهّا النّاسٍ إنَّمّا بّغًيٍكٍمً عّلّى" أّنفٍسٌكٍم} وفي الثانية {وّلا يّحٌيقٍ المّكًرٍ السَّيٌَئٍ إلاَّ بٌأّهًلٌهٌ} وفي الثالثة {فّمّن نَّكّثّ فّإنَّمّا يّنكٍثٍ عّلّى" نّفًسٌهٌ}فمن كانت فيه واحدة من هذه فهي عليه وبالا والعياذ بالله عز وجل نسأل الله تبارك وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين، وأن يوحد صفهم، وأن يرد ضالهم وأن يُبصِّر غافلهم إنه على كل شيء قدير. أيها الاخوة الكرام الأحبة، الفقهاء والعلماء بينوا أن البغي هو الخروج على ولاة الامر، وبينوا أن البغي ولو كان بتأويل سائغ فإنما هو بغي ويجب قتال أهل هذا البغي، فكيف إذا كان بغير تأويل قالوا: هو قطع للطريق وإفساد في الأرض وقالوا: هو بغي ولو كان على إمام جائر فكيف إذا كان على إمام يُطبق شرع الله، وكيف إذا كان على إمام يسعى في عمل الخير للمسلمين في كل مكان، وكيف إذ تجرأ هؤلاء وقتلوا من هؤلاء الجنود المسلمين الموحدين المصلين، بأيّ ذنب قتلوهم، وبأي حجةٍ وبرهان أزهقوا أرواحهم، وأسالوا دماءهم هل ذلك جهاد في سبيل الله؟! هل هؤلاء كفار تزهق أرواحهم ويقتلون؟ إنه من وساوس الشيطان، إنه من الضلال، من الضياع، من الجهل بدين الله تبارك وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فالواجب علينا أيها الاخوة الكرام الأحبة ان نرجع إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففيهما الخير، وفيهما الهداية، وفيهما البصيرة، ونرجع إلى أقوال أهل العلم والبصيرة، يبصروننا معنى كتاب الله، ومعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نستقيم ولا نعوج ولا نزيع ولا نضل، فالواجب على الآباء والأمهات والمعلمين والمربين أن يوجهوا أبناءهم وأن يعوا وأن ينتبهوا، (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) إذا رأى من ابنه أو تلميذه أي تصرف أو أي كلام فيه خلل، لا يستهين بهذا الأمر بل عليه أن يهتم وأن ينصح، وأن يستعين بالدعاة المخلصين والأئمة المرشدين حتى يُقوِّموا عقل هذا الابن، فإن اعوجاج العقل أصعب من اعوجاج الأخلاق، إذا اعوج خلق الابن فإنه بإذن الله عز وجل يسهل على الأب أن يعالجه، ولكن إذا اعوج فكره أو ضلَّ أو خرج عن الصراط المستقيم؛ فإنه من الصعوبة بمكان أن يُعدّل أو يغيّر أو يبدل، فلذلك علينا أن نبدأ من البداية في تربية أبنائنا وفي إرشادهم وفي نصيحتهم، عسى ولعل أن تنطفئ هذه الفتنة بإذن الله عز وجل في أقرب وقت إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير سبحانه وتعالى نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. (1) رواه أحمد في (المسند) (19433) وقال محققو المسند: إسناد ضعيف. (2) رواه ابن ماجة (4211) الترمذي (2511) وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم (4/163) وقال: صحيح الإسناد. (3) رواه مسلم (2865) وأبو داود (4895) وابن ماجة (4214).