كيف يتوقف التفكير؟! ويعجز عن التعبير؟! ويتساقط القلم من الأنامل!! ما أصعب لحظة الفراق.. وما أقساها على النفس.. وما أقواها على القلب. لقد مات والدي.. وصديقي.. وقريبي.. إنها سنة الحياة، إنها نهاية تلك النفس الطاهرة، تلك النفس المتواضعة، النفس الزكية، النفس التقية، التي عرفت بالخير وفعله، نبراس التواضع والعفة، رمز التقى والصلاح، دليل البساطة وحسن الخلق. بلا تكلف، بلا رياء، بلا تصنُّع، صاحب الابتسامة البريئة، والأخبار الصادقة، والكلمة الهادفة. حياته بسيطة لكنها جميلة، سيرته قليلة لكنها نقية. وافاه الأجل يوم الخميس الموافق 20/8/1424ه رحمه الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه ورزقه الله الفردوس وجعله الله في عليين. قال تعالى: «{كٍلٍَ نّفًسُ ذّائٌقّةٍ المّوًتٌ وّإنَّمّا تٍوّفَّوًنّ أٍجٍورّكٍمً يّوًمّ القٌيّامّةٌ فّمّن زٍحًزٌحّ عّنٌ النَّارٌ وّأٍدًخٌلّ الجّنَّةّ فّقّدً فّازّ وّمّا الحّيّاةٍ الدٍَنًيّا إلاَّ مّتّاعٍ الغٍرٍورٌ}. إنه صالح بن محمد بن علي بن عبدالله المحمود، الذي يحمل منه اسمه نصيب وسيرته ليس فيها معيب، المولود في بلدة ملهم ومكث في هذه الحياة قرابة سبعين عاماً، عمل أول حياته مع والده في الزراعة، ثم انتقل إلى الرياض وعمل لدى سمو الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز - رحمه الله - ثم انتقل وعمل في قصر أم قبيس بالرياض وبعد ذلك انتقل إلى العمل في وزارة التربية والتعليم. وكانت حياته العملية مثالاً للعامل المخلص والموظف المنتج والمسؤول الأمين، لم يغب في حياته عن العمل ولم يفته التوقيع في بيانات الحضور ولو يوماً واحداً. يحضر للعمل مبكراً فيقرأ القرآن قبل مجيء الموظفين بساعة تقريباً. شكره رؤساؤه، وأثنى عليه زملاؤه، وأحبه رفقاؤه، لا مكان للحسد في قلبه، ولا مجال للحقد في نفسه، صوته بالقرآن شجي وترتيله جميل ونقي، لا تمل قرأته وتتلذذ بتلاوته، كان كثير الختمات للقرآن يختم في شهر أو أقل، وفي رمضان كل ثلاثة أيام، محافظاً على صلاة الوتر، ومتابعا للعمرة، وذا وصل للأرحام ومحباً للجيران، يستصغر نفسه، ويقدر الكبير والصغير، ولا يحب الكبر والرياء ولا المدح والثناء حريصا على حقوق الناس، يؤديها قبل وقتها ويبحث عن أهلها. في قلبه رحمة وفي نفسه شفقة، عندما سمعت خبر وفاته اضطربت الروح، وانحبس النفس، وذرفت العين، وانسكبت العبرات، وتلعثمت الكلمات. ولكن كيف تبدل الحزن إلى فرح والعبرات والتشكيات إلى طمأنينة وراحة وثبات. لقد نظرت في وجهه النظرة الأخيرة فرأيت النور المشرق والبياض المحرق والابتسامة الصادقة والميتة الحسنة بإذن الله. رأيت في الصلاة عليه بشراً كثيراً وثناء جميلاً ودعاء صداقاً. قال عليه الصلاة والسلام :«أنتم شهداء الله في أرضه». وعند العزاء رجال ونساء، صغار وكبار، أعداد كثيرة ودعوات منيرة وجلهم أجمعوا على وصفه ب «كاف، عاف». ومن المفارقات العجيبة أنه في أواخر حياته كان حريصاً على رؤية عمه عبدالرحمن بن علي المحمود، الذي يشكو من بعض الأمراض وبقي مدة في المستشفى، ولكن حالة والدي لا تساعده على رؤية عمه، فيتوفى العم عبدالرحمن ويدفن يوم الاثنين، ثم يتوفى الوالد ويدفن يوم الجمعة ولا نجد القبر المناسب له إلا قبراً بجانب العم عبدالرحمن فتجاورا في المقبرة، ونسأل الله أن يجمعنا بهم في جنات عدن، ويرزقنا الصبر والاحتساب.فاللهم لك الحمد حمداً حمداً ولك الشكر شكراً شكراً، فإنا رضينا بقضائك وقدرك والحمد لله على كل حال.