انتهى الاتحاد الأوروبي من اعداد النص النهائي من الدستور الأوروبي الجديد بعد أن راجعه 105 خبراء برئاسة الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان. لكن النص الجديد أثار ردود فعل غاضبة حوله أهمها ما جاء من الأحزاب الديمقراطية التي أعلنت رفضها الكامل لنص الدستور لعدم اشارة نصوصه إلى الديانة المسيحية من قريب أو بعيد.. وتضامن معها اتحاد الكنائس الأوروبية وأكدت على أن «الدستور تجاهل تماماً الاعتراف بالتأثير الكبير الذي قامت به الثقافة والحضارة المسيحية على الحضارة الأوروبية». لكن فريق العمل الذي صاغ هذا الدستور رد على هذه الانتقادات بأن الجذور المسيحية موجودة في أوروبا القديمة أو التقليدية في اليونان أو في العاصمة الإيطالية روما، وفي كتب الفلسفة والأدب وأن من يرغب في الاعتداد بالديانة المسيحية أو إحياء ذكرها عليه العودة إلى هذه المصادر. واعتبرت الأحزاب المسيحية الديمقراطية الأوروبية في بيان لها أن هذا الرد إنما يعد من السب العلني ضد كل المسيحيين في أوروبا وقد يصل إلى مرتبة ازدراء الأديان، وتدخل بابا الفاتيكان على الخط وطالب الرئيس الفرنسي الأسبق ديستان بأن يضع في اعتباره ايجاد مساحة كافية للإشارة لأساس الدين المسيحي في أوروبا، وهدد بأنه في حالة عدم استجابة ديستان لهذه المطالب فإن الدستور الأوروبي لن يلقى النجاح وسيعد مخالفة للعقلانية السليمة ومغيِّباً للعقيدة الدينية لكل الشعوب الأوروبية. وعلى الرغم من المحاولات والضغوط الشديدة التي تمارسها الأحزاب الديمقراطية المسيحية والفاتيكان فإن القائمين على إعداد نص الدستور الأوروبي الجديد مصممون على أن الأديان ليست لها مكان في الدستور الجديد، ومن يريدها عليه الذهاب إلى كتب التاريخ والأدب والفلسفة.. ولا يقر الفريق بأي فضيلة للديانة المسيحية على حضارتهم وإنجازاتهم وثقافتهم، وأن جذور المسيحية موجودة فقط في أوروبا القديمة أو لدى اليونانيين القدماء، لذلك فإنهم يغسلون أيديهم من تأثير هذه الديانة على حضارتهم مدركين أن ديانة تتوقف فاعليتها في حدود جدران الكنائس ولا تتجاوزها لا يمكن أن يكون لها تأثير كبير خارجها، كما يزعم الفاتيكان وقادة الأحزاب المسيحية في أوروبا. ويبدو من السجال الدائر الآن انه لا مكان للأديان أو الاهتمام بها في الدستور الجديد والمرحلة اللاحقة في حياة الاتحاد الأوروبي بدليل أنهم يعكفون الآن على دراسة الإسلام دراسة مستفيضة لتحديد مفاهيم الإسلام الذي ينبغي للمسلمين أن يعتنقوه ويسلكوه داخل قارتهم، إسلام خاص بالأوروبيين وحدهم له حدوده وأطر تأثيره ونطاق تعامل المسلمين خارج القارة، بحيث يتم عزل الجوانب السياسية والتشريعات الاقتصادية ليكون دين عبادات يومية للفرد دون ارتباطه بالجماعة ويتوقف نشاطه خلالها داخل المساجد وعدم الخروج بالعقيدة من حدود هذه الأطر. وغير مسموح للمسلمين في الدراسات التي تعدها أوروبا للإسلام بمساندة أو مشاركة إخوانهم في البلدان الإسلامية أو أي جماعة إسلامية أخرى ومن يفعل ذلك فسيكون نصيبه من الملاحقات الأمنية والاتهامات كبيراً. الأوروبيون ماضون في طريقهم لإيجاد أسس جديدة للإسلام ليكون نسخة مكررة لما تم احتواؤه للديانة المسيحية بجعلها عبادات تمارس داخل جدران الكنائس ولا تتجاوزها. ولأن الإسلام دين يقوّم حياة المسلم منذ أن يستيقظ من نومه حتى يخلد إلى فراشه مروراً بكافة سلوكياته الحياتية في البيت والعمل والشارع، فإن الأوروبيين سيعملون على حصاره بين جدران المساجد ولا يخرج عن إطارها، والذي شجَّع الأوروبيين على الاقدام على هذه الخطوة تلك النجاحات التي حققوها من خلال الضغوط التي مورست على دول اسلامية مثل تركيا التي ألغت عقوبة الإعدام من أجل موافقتهم على دخولها الاتحاد الأوروبي، كما أوقفت إيران مؤقتاً تنفيذ حد الرجم بعد أن رأى فريق منهم أن إصدار أحكام بالرجم يضر بصورة إيران في العالم ويؤثِّر سلباً على علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي. إذن الاتحاد الأوروبي الوليد الذي يمضي قدماً في طريق إتمام كل عناصر الوحدة ترى علمانياته انه لا مكان للديانات خارج اطر أماكن العبادات، وأن الحضارة الأوروبية الحديثة والقادمة ستخلو من أي تأثير من قريب أو بعيد بالأديان، لتكون حضارة مادية بحتة، خالية من أي مؤثر روحي. ومن أراد أن يحصل على هذا التأثير فعليه الذهاب للمساجد والكنائس وكتب الفلسفة والتاريخ للعثور عليها. هذا المسلك العلماني الأوروبي ليس له من تفسير غير ما أشرنا إليه، لكن الغريب حقاً أن من بيننا من يتهم الحضارة الأوروبية وما توصلت إليه من تطور في تنظيم العلاقات بين الحكام والشعوب، سواء من المؤسسات أو أسلوب الترشيح لها من أسس ديمقراطية وحرية في التعبير، بأنها نتاج للديانة المسيحية ومن ثم يجب أن نرفضها ولا نزرعها داخل أقطارنا الإسلامية. فماذا يقول الآن أصحاب هذا الرأي بعد أن نأى الأوروبيون بأنفسهم عن تأثيرات الديانة المسيحية على حضارتهم وثقافتهم وهويتهم وليس لها مكان في الاتحاد الجديد ولا في دستوره؟ فهل ما زالت الديمقراطية وإفرازاتها من نتاج تأثير الديانة المسيحية أم أنها تطور بشري بحت خارج إطار تأثير أي مؤثِّر كان ، وعلينا الاستعانة بها من أجل استكمال تطوير مجتمعاتنا وحياتنا، وأن تسود الديمقراطية المعرفية كل الأقطار؟ وكفانا حججاً ومبررات واهية كشفها الدستور الأوروبي الجديد!!