كل من وهبه الله عقلاً يميِّز به الصواب والخطأ يعرف تمام المعرفة أن التفجيرات التي ارتكبت في الرياض وأمثالها جريمة منكرة، فيستهجنها وينكرها. وكل من رسخت في قلبه مبادىء الدين الإسلامي الحنيف، فأصبح قادراً على التفريق بين الحلال والحرام، يدرك أن تلك الجريمة من أعظم المحرَّمات فيمقتها ويدينها. ولأن مجتمعنا بعمومه يتحلَّى أفراده بعقولهم التي وهبهم الله إياها، ويتَّصفون بتمسكهم بدينهم الإسلامي الذي رضيه لهم، جاء ما كان متوقعاً من إجماع فئاته، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، على إدانة تلك الجريمة واستنكارها، وجاء تضرُّعهم إلى الله سبحانه أن يلهم أولي الأمر في وطننا العزيز السداد في اتّخاذ ما يتَّخذونه من قرارات، ويوفِّقهم في تنفيذ ما يتبنَّونه من إجراءات بالنسبة لكل ما يعكِّر صفو أمن الوطن، ويؤثِّر على طمأنينة مواطنيه ومواطناته. وكانت تلك الجريمة التي ارتكبت فاجعة بكل أبعادها، فملأت قلوب المخلصين والمخلصات في وطننا ألماً وأسى. ومن أشدِّ أبعادها إيلاماً أن يرى المرء كيف سوَّل وأملى لفئة من شباب هذا الوطن من سوّل وأملى حتى فهموا الدين فهماً خاطئاً، وسيطر على عقولهم نوع من الفكر الخطل، فأوصلهم إلى الدرك الذي وصلوا إليه، وأوقعهم في الهاوية التي وقعوا فيها. كانت تلك الجريمة الفاجعة ضارة بالدين الإسلامي الذي أصبح في الآونة الأخيرة يخيف أعداءه بانتشاره السريع في العالم رغم ضعف الأمة المسلمة وضعف إمكانات نشرها له وآليات الدعوة إليه. ذلك أنها ساعدت أولئك الأعداء في ادِّعاءاتهم الكاذبة انه دين إرهاب. وكانت ضارة بهذه الأمة؛ إذا استغلِّها كما استغلَّ أمثالها المتربِّصون بها في تشويه سمعتها وصورتها واتخاذ إجراءات ضدها؛ وبخاصة من دول الهيمنة العالمية التي لا تكنُّ لها وداً. وكانت ضارة بالوطن ومن فيه؛ إذ روَّعت أمنه، وأتاحت الفرصة لمن لا يعجبهم نهجه السويّ؛ عقيدةً وتطبيقاً للشريعة، كي يرفعوا أصواتهم ضد أسس هذا النهج. وكانت ضارة بأسر الجناة التي كانت تأمل أن يكون أبناؤها قرَّة عين وعوناً لها، وأعضاء نافعين لوطنهم ومجتمعهم وأمتهم، وإذا بهم قد صاروا مصدر ألمٍ لها وأداة إساءة للوطن والمجتمع والأمة. بل كانت، أيضاً، قاصمة ظهر للجناة أنفسهم؛ إذ أزهقوا أرواحهم في سبيل ما يضر، فباؤوا بوزر ما ارتكبوا وما عملته أيديهم. أما ضررها على ضحاياها فعدوان أوضح من أن يتكلَّم عنه. وكان لتلك الجريمة الفاجعة جانبان. كان هناك معتدون ظالمون وكان هناك معتدى عليهم مظلومون. ولأولئك وهؤلاء أسر مكلومة؛ أمهات وآباء، وأخوات وإخوة، وأبناء عم وأرحام. وإذا كان مصاب أسر المعتدى عليهم جسيماً، وألمها عظيماً، فإن مصاب أسر المعتدين الظالمين وألمها ليسا أقلَّ ولا أهون. ذلك أن مما يخفِّف مصاب أسر المعتدى عليهم وألمها أنها تدرك أن أحبتها قتلوا ظلماً وعدواناً، وأنهم لذلك سيجدون بإذن الله، عند ربهم الكريم في أخراهم داراً خيراً من دارهم في دنياهم، وعيشاً في الدار الباقية أطيب من عيشهم في الدار الفانية. أما أسر المعتدين فيزيد من وقع مصاب وألمها أن أبناءها ارتكبوا ما ارتكبوا من ظلم وعدوان، ومضوا إلى حاكم عدل يجزي الظالمين المعتدين بما يستحقونه من عقاب. وكاتب هذه السطور مثل غيره من المؤمنين بعدل الله سبحانه يؤمن كل الإيمان بوعده للمظلوم ووعيده للظالم. وهو كأمثاله من عباد الله يدعو البارىء جلَّ شأنه وتقدَّست أسماؤه، أن يجبر مصاب أسر المظلومين وأسر الظالمين، ويلهمها الصبر والسلوان. وإن من نعم الله على وطننا العزيز أن قيادته متمسكة بأحكام الشريعة الغرَّاء التي تأسس حكمها على ثوابت واضحة في طليعتها تطبيق هذه الشريعة، والتي من أحكامها النبيلة العادلة {أّلاَّ تّزٌرٍ وّازٌرّةِ وٌزًرّ أٍخًرّى"} ومن المعلوم أنه ليس من نهج هذه القيادة زادها الله توفيقاً وسداداً أخذ أحد بجريرة غيره مهما كانت صلة القرابة بينهما. لذلك فإنه جدير بجميع المواطنين والمواطنات تمشياً مع أحكام الشرع المطهَّر وانسجاماً مع نهج القيادة الحكيم عدم إظهار ما يمسُّ مشاعر أسر الجناة ويؤذيها؛ عملاً أو قولاً؛ إذ المساس بها وإيذاؤها جناية على أبرياء مكلومين. ومن الأمور الجديرة بالتأمل أن الأحوال الأمنية لم تعد كما كانت عليه في كثير من بلدان العالم؛ شرقه وغربه، جنوبه وشماله، متقدِّمه ومتخلِّفه، وأن الفكر الخطل ليس خاصاً ببلد دون بلد أو أمة دون أخرى. وكلٌ من هذا وذاك معروف مشاهد. قد تتشابه مظاهر الخلل الأمني وقد تختلف، لكنها تصبُّ في مصب واحد. وقد تتشابه صور الفكر الخطل وقد تتنوَّع، لكنها تنتهي إلى نتيجة واضحة؛ وهي أنها فكر غير سويّ. ومن الأمثلة الشاهدة على ماسبق ذكره في العصر الذي عاشه كاتب هذه السطور أن المرء كان قبل أربعين سنة يسكن في نزل صغير في لندن مثلاً يوفِّر منامة وإفطاراً، ويترك جميع ما لديه بما في ذلك جواز سفره في غرفته دون أن يخاف عليه. وقد ذكر أحد الأمريكيين في كتابه عن المئة الروَّاد من أرامكو أن رجال الشركة كانوا يأتون بأكياس النقود؛ فضةً وذهباً، إلى مكتب تابع لوزارة المالية في الدمام. وفي بعض الأحيان كان وصولهم إلى المكتب المذكور بعد أذان الظهر، فيجدونه مغلقاً، ولا يفتح مرة أخرى إلا بعد صلاة العصر، فتوضع تلك الأكياس عند بابه غير المحروس دون خوف من أن يمسَّها أحد. وما تزال تظهر بين حين وآخر في جميع أنحاء العالم؛ متقدِّمه ومتخلِّفه، أمور غاية في غرابة فكر من يقومون بها. من ذلك أن مئات من الأمريكيين انتحروا جماعياً، سنة 1979؛ بتناولهم عمداً واختياراً شراباً ساماً بناء على اعتقاد ديني واضح الخطأ والضلالة. والاقتناع بفكر غير مستقيم لا يستغرب أن يقود صاحبه إلى ما لا يخطر ببال ذوي العقول السليمة. وقد يكون الأثر السيئ لهذا الفكر غير المستقيم مقتصراً على صاحبه المقتنع به، لكن قد يتعدَّاه إلى غيره، فيكون أفدح وأدهى. وتبنِّي الإرهاب؛ منهجاً وأسلوباً، جانب من جوانب الفكر غيرالسويّ. وهو ليس موجوداً لدى شعب دون غيره، ولا بلد دون سواه. على أن الدول المهيمنة في العالم تفسِّره كما تريد، فتصف، أحياناً، ما ليس إرهاباً بأنه إرهاب إذا كان ممارس هذا الإرهاب حليفاً لها، أو تتفق مصالحه مع مصالحها. ولهذا فإنها ترفض عقد مؤتمر عالمي يعرِّف الإرهاب تعريفاً مانعاً جامعاً، ويفرِّق بين ما هو إرهاب وما هو كفاح لنيل الحقوق المشروعة. وأراني استرسلت نوعا ما، فأعود إلى الحديث عن الجريمة التي ارتكبت في الرياض. أظن بل أكاد أجزم أن بعض الجهات البحثية في وطننا العزيز؛ مثل مركز مكافحة الجريمة، قد قامت بدراسات عن الفكر غير السويّ الذي سيطر على عقول فئة من شباب هذا الوطن بينهم من ارتكبوا تلك الجريمة وأمثالهم. ومثل هذه الدراسات أكثر تأهيلاً لإدراك أبعاد المشكلة؛ أسباباً وواقعاً وتوقُّعا. وما أطرحه، هنا، مجرَّد خواطر تحتمل الصحة وعدمها. من المرجح أن الفئة التي يمكن أن تقع في مثل هذا النوع من الفكر الخطل هي التي تتراوح أعمارها بين السابعة عشرة والثلاثين. ولو فرض أن شباب تلك المرحلة العمرية من سكان الوطن يقرب عددهم من أربعة ملايين، وأن من وقعوا في الفكر المذكور يمثّلون واحداً بالألف، فإن هذا العدد رغم قلَّته جداً لا يستهان به. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح ويبحث عن إجابة شافية له هو كيف نحمي الشباب الذين يمثِّلون تسعمائة وتسعة وتسعين بالألف من الوقوع في الفكر الخطل؟ بل إني أزيد على ذلك بالقول: أليس من الممكن ومما ينبغي أيضاً أن ننقذ من يمكن إنقاذه ممن وقعوا فعلاً بذلك الفكر فنمنعهم من ارتكاب جرائم ضد أنفسهم وضد غيرهم من أقارب وسواهم ووطن ومجتمع وأمة؟ وفي ظني أن توافر جهود الجميع؛ قيادة وشعباً، علماء شريعة وكتّاباً، يمكن أن يحقق الشيء الكثير. وما لم تتوافر هذه الجهود فإن الضرر سيعم، والشر سيطم. على أن مما يلفت نظر المتابع لما يكتب يجد أن في بعض الكتابات المتناولة للجريمة ما لا يسهم مع الأسف في إيجاد مناخ صحيّ يمكن في رحابه أن تعالج الأمور بما تستحقه من ترو واتِّزان وحكمة تكون نتائجها نافعة بإذن الله. وبعض هذه الكتابات تجمح إلى استنتاجات تنقصها الأسس العلمية. بل إن منها ما يضع مسؤولية ما حدث على الفكر الذي قام على أساسه الحكم السعودي، ويصف هذا الفكر بما لا يتفق مع الحقيقة. وإذا كان جهل البعض بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب واضحاً في كتابته ما كتب فإن تجنِّي البعض الآخر عليها لأسباب يعرف أكثرها واضح أيضاً. وسوف أحاول تبيان موقف تلك الدعوة من كثير من القضايا المثارة؛ عقيدة وفكراً، ليحكم المنصفون عليها وعلى تلك الكتابات؛ وذلك في كتابة قادمة إن شاء الله. وفي ختام هذه الحلقة أود أن أقول: إن الكتابات الحادة المتشنِّجة لن تؤدّي إلى ما يؤمله المخلصون من حلٍّ للمشكلات بجميع صورها وأشكالها؛ بل ربما دفع الاستفزاز من لم ينزلقوا من الشباب المتديِّن في الفكر الخطل إلى الانزلاق فيه، وجعل مهمَّة من يحاولون تجنيبهم ذلك الفكر من العلماء والحكماء المخلصين أكثر صعوبة وأقلَّ حظاً في النجاح. وإذا كان المؤمل أن يكون رائد الجميع الإصلاح فإن المرجو أن تُتّبع الوسائل الحسنة لتحقيق ذلك. وفَّق الله الجميع لما فيه السداد والرشاد