ها قد انتهت الحرب وانتصر الغرباء في أرض الرافدين، ولم يبق لنا شيء منها سوى البحث الدؤوب عن حقائق وعبر ردمها ركام المعارك.. انتهت ام الحواسم بنتيجة متوقعة، ولكن بسقوط مباغت لعاصمة الرشيد.. فأين تحليل العقداء والألوية المتقاعدين والمنظرين العسكريين العرب الأفذاذ عبر الفضائيات او عبر الصحف.. قالوا ما يطربنا: لن تكون المعارك سهلة.. سوف يقوم الجيش الجمهوري العتيد بمقاومة شرسة، سيعمل ابناء الأرض الصناديد على اجتراح المعجزات كما فعل الفيتنام، سيخل المتطوعون العرب الأشاوس بخطط الغزاة الغاضبين ويدحرونهم، ستعمل اخلاقيات الرأي العام الدولي على عزل امريكا من الساحة الدولية. ماذا كان يصنع القائد العسكري العربي المتقاعد خلف شاشات الفضائيات، ذاك الذي لم يذق الانتصار قط وجرب صنوفاً من الهزائم دون ان يعترف بها.. هل كان يحلل لنا ام يحكي خيالاً تدثر بالرغبات.. هل كان يحلل ويوضح لنا ما يحدث ام كان يقول لنا ما نريد سمعه... ونحن ككل البشر نحب الانتصار على الغزاة، ونحب ان نكون اقوياء وخصومنا اقل قوة منا.. ولكن هل نصدق الأوهام، ونغضب من المحللين القلَّة الذين يصارحوننا بالحقائق القاسية، بأخطائنا الفادحة، بتفوق الآخرين ليس تقنياً فقط بل كحضارة عامة.. لماذا عندما تواجهنا افكار نقدية نادرة مثل كتاب «ثقافة العنف في العراق» لمؤلفه الروائي العراقي سلام عبود تقوم قيامة المثقفين في مواجهة ما نسميه تشويه صورتنا؟ ويصل بنا الأمر ان نتجنب مواجهة الاخطاء الطبيعية المتوقعة في كل المجتمعات، مثل مظاهر السلب والنهب بعد انهيار النظام الامني، فلم نحاول تحليل حجم هذه الظاهرة بل كان تعليق اكثر المثقفين ان ذلك ليس من العراقيين بل من تشجيع الغزاة او من مزابل المدن المجاورة كما قال احد كبار المثقفين العراقيين!! فصورتنا ينبغي ان تكون مثالية بغض النظر عن واقع حالها، اما التشوهات فهي من صنع الآخرين! هل نستفيد من كل هذا الخراب الذي يحلَّ بنا منذ قرون ومن ذاك الذي سيأتي.. ومن تشوه وظائفنا ومهماتنا، حين تحول المحلل العسكري، والمفكر والمعلق السياسي، والمراسل الصحفي.. الخ الى حكواتية ومحرضين ودعاة للمقاومة او انتهازيين لعواطف المتلقين؟ نعم، من الطبيعي ان يمارس المثقف دوراً تحريضياً وتعبوياً اثناء الأزمات الحادة تجاه خطر محدق من الخارج، ولكن ليس من دور المحلل الموضوعي ان يخدع نفسه ويخدعنا بما نرغب سماعه ويزيف التوقعات، قالبا هزيمة نراها تلوح في الأفق الى نصر قادم! وحتى بعد الهزيمة، طفق غالبية المحللين العرب كعادتهم منذ نكبة فلسطين معلنين المبررات الجاهزة: ثمة لعبة قذرة.. خيانة.. مؤامرات غادرة تحاك ضدنا في الظلام.. الخ، اما نحن فقوم طيبون لنا بعض الاخطاء التي لا تذكر.. انجزنا ما ينبغي انجازه من مشاهدة الفضائيات والسهر والتحليل الثرثار والمنطق العاطفي، وآن لنا ان ننام مرتاحي الضمير، وأخزى الله القوم الظالمين!! ولا تزال المحاولات تجري من هذا الصنف من المحللين لتبرير الهزيمة الماحقة بصنع خيالات تآمرية وشائعات من جنس ان هناك صفقة تم تعاطيها بين الرئيس العراقي والروس والجيش الامريكي او ان هناك خيانات ورشاوى ضخمة دفعت لبعض القادة.. الخ، ورغم انه قد ثبت صحة احدى هذه الشائعات، فإنها لم تظهر على اساس موضوعي بل على اساس تبريري.. فالعرب الشجعان لا يُهزمون من أوغاد، وليست الخسارة إلا مفاجأة أو صدفة، ومن ثم فإن الخط السابق الذي كان عليه التحليل وكذلك الذي كان عليه نظامنا «الحضاري او السياسي» او جيشنا العربي كان سليماً.. وبالمحصلة، لا نحتاج لإصلاح جذري او مراجعة اخطائنا، سوى ان نحتاط للخونة والمتآمرين والتمسك بايديولوجياتنا!! في كل الاحوال، لن تنجح توقعاتنا واستنتاجاتنا اذا استندت على عواطف او ايديولوجية مسبقة تحليل الاوضاع بطريقة كارثية، فالتحليل والتوقع والاستنتاج تتطلب تأسيساً معرفياً بمنهاج علمي متجرد من الرغبات والميول، والتنبؤ بالنتائج ينبغي ان يعتمد على وقائع مادية حقيقية ومعلومات موثقة وليس على اشاعات مقنعة نسبية الصحة او على منطق افتراضي يتوقع الاحداث من خلال افكار عامة وليس من خلال واقع حادث الحوادث ذاتها، والتحليل لابد له من منهج موضوعي يتم التقيد به خاصة عندما نحصل على نتائج لاترضينا، فليس من المنهجية ان نتقلب بين المناهج او الايدويولوجيات حسب الرغبة في النتيجة المرجوة، كما ان التوقع ينبغي ان يأخذ في حسبانه فرضيات الآخرين وخاصة الخصوم، فمن المهم الاستماع الى تحليل وتصورات مستشاري ومفكري الخصم للغزو لمعرفة الاسس التي جعلتهم يثقون بسلامة مبرراتهم وبثقتهم بنجاح حملتهم، لأنها قد تملك جزءاً كبيراً أو صغيراً من المسوغات او الحقائق المفيدة. اذا كنا سنبحث عن اسباب هزائمنا في نقائص الآخرين او نظريات المؤامرة او الخيانات او الصدف التاريخية، فنحن نبحث عن السهولة وعن ما يريحنا كي ننام مطمئني الضمير، اما اذا كنا سنبحث عن الاسباب في مكانها الصحيح فينا او في الآخرين، فسوف نواجه انفسنا المواجهة القاسية عن عيوبنا وعن اسسنا الحضارية التي تنطلق منها سلوكياتنا، وسوف نسأل الأسئلة التقنية والمادية الصعبة تلك التي لا نعيرها اهتماما مقابل اهتمامنا فقط بالارادة او الاخلاقيات التي لا نملك غيرها.. نعم، هناك ارادة تقاوم الخصوم وتجابه الظلم، ولكن هذه الارادة ينبغي ان تكون حصيفة في التعامل مع الخصم وتقدير قوته الفيزيقية من عتاد ومال وتنظيم.. بحيث لا نثق بسهولة بتحليلات المروجين للمقاومة المجانية وضمان الانتصار السريع واستصغار الخصوم وتبسيط حجم الكوارث.. فهل نستفيد من هزائمنا كي نتجنب تكرارها؟.