الحوار كلمة تستوعب كل أنواع التخاطب وأساليبه، سواء كانت منبعثة من خلاف بين المتحاورين، أوعن غير خلاف؛ لأنها إنما تعني: المجاوبة والمراجعة في المسألة موضوع التخاطب، وهو وليد تفاهم وتعاطف وتجارب كالصداقة، وبعبارة أخرى، فإن الحوار لا يمكن أن يكون إلا بين أطراف متكافئة تجمعها رغبة مشتركة في التفاهم، ولا يكون نتيجة ضغط أو ترغيب، ولذلك كان الحوار أعمَّ من الاختلاف ومن الجدل، وصار له معنى حضاري بعيد عن الصراع، إذ الحوار: كلمة تتسع لكل معاني التخاطب والسؤال والجواب. وقد ورد لفظ الحوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، اثنان منها في صيغة الفعل وهما قوله تعالى، في سورة الكهف: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34) وقوله تعالى في السورة نفسها: )قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37) والثالث في صيغة المصدر في قوله تعالى في سورة المجادلة: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (المجادلة:1). إن نظرة الإسلام إلى الحوار نظرة موضوعية تقوم على احترام الرأي الآخر، ونبذ كل تعصب أوتنطع في الرأي، و تتبين موضوعية نظرة الإسلام في أن موقفه من الجدل العقيم، هوهو، سواء كان المجادل مؤمناً أو غير مؤمن.والإسلام يهدف من وراء ذلك إلى أن يضع منهجاً يقتضي أن يكون الغرض منه هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد الجدل لذاته كما تضمنته النظرية الأفلاطونية في الجدل التي تقوم على اعتبار الجدل هدفاً في ذاته، نعم قد نعمل على تدريب الإنسان على الجدل، ولكن ذلك إنما يكون بمقدار ما يحقق آلة التمكن من الوصول إلى الهدف الأسمى للحوار في الجدل، وهو الاقتناع بالحق والوصول إليه، ولذلك نجد القرآن الكريم يذم الجدل العقيم وينهى عنه. ففي نبذ الجدال غير المجدي الصادر عن طائفة مؤمنة، يقول الحق سبحانه: {)كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) (5) )يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (6) }، وفي نبذ الجدل العقيم أو العصبي الصادر عن طائفة غير مؤمنة، يقول الحق سبحانه: )وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (الزخرف:57) (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (58) )إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ) (59) والمتتبع للسيرة النبوية المطهرة، سيرى أمثلة رائعة في فن الحوار، والفنون الأخرى الضرورية لاكتساب محبة الناس؛ لذا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يدخل قلوب البشر، من رآه وحتى من لم يره، وهذا موقف نرى فيه أسلوب رسولنا الكريم في الحوار، وكيف استطاع أن يبين للشاب خطأه، بأسلوب يختلف عما كان يريد الصحابة القيام به، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن فتى شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: «مه،مه» فقال: ادن، فدنا منه قريباً. فقال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه. فلم يكن من الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. رواه أحمد، فلم يستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب اللوم أو العقاب، وإنما استخدم أسلوب الحوار والمناقشة، وطرح الأسئلة، ليدع المجال للآخر للتفكير في أمره. وللحوار آداب كثيرة أورد بعضاً منها: 1- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام: إن من أهم ما يتوجه إليه المحاور في حواره التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وّقٍل لٌَعٌبّادٌي يّقٍولٍوا الّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ}، وقوله: {وّجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ}، فحق العاقل اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والتعسف في الحديث، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينة والدليل معه دامغاً، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وقد تفحم الخصم ولكنك لاتقنعه، وقد تسكته بحجة، ولكنك لاتكسب تسليمه، وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ولو وُجدت القناعة العقلية، والحرص على القلوب، واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استثكار الأعداء واستكفاء الإناء. وإنك لتعلم أن إغلاظ القول، ورفع الصوت، و انتفاخ الأوداج، لا يولد إلا غيظاً وحنقاً، ومن أجل ذلك فليحرص المحاور على ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير. 2- الالتزم بوقت محدد في الكلام: ينبغي أن يستقر في ذهن المحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب، والذوق الرفيع، يقول ابن عقيل في كتابه «فن الجدل»: «وليتناوبا في الكلام مناوبة لا مناهبة، بحيث ينصت المعترض للمستدل، حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يقرر اعتراضه، ولا يقطع أحد منهما على الآخر كلامه، وإن فهم مقصوده من بعضه»، وقال: «وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه، وليس في ذلك فضيلة، إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس في ذلك علم غيب، أو زجراً صادقاً، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به». 3- حسن الاستماع، وأدب الصمت، وتجنب المقاطعة: من آداب المجالسة حسن الاستماع، واللباقة في الإصغاء، وعدم قطع حديث المحاور، وإن من الخطأ أن تحصر همك في التفكير فيما ستقوله، ولا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وقد قال الحسن بن علي لابنه رضي الله عنهم أجمعين : «يا بني إذا جالست العلماء؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يمسك»، ويقول ابن المقفع: «تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، و من حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول». وما أحسن بيتين لصفي الدين الحلي؛ لما يحويان من آداب وفنون قلما نتنبه إليها، أو نلقي لها بالاً، يقول: اسمع مخاطبة الجليس ولا تكن عجلاً بنطقك قبلما تتفهم لم تعط مع أذنيك نطقاً واحداً إلا لتسمع ضعف ما تتكلم 4- تقدير الخصم، واحترامه: ينبغي في مجلس الحوار التأكيد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة. إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس، أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر معيب محرم، وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام لا ينافي النصح، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة. 5- فهم نفسية الطرف الآخر، ومعرفة مستواه العلمي، وقدراته الفكرية سواء كان فرداً أو جماعة؛ ليخاطبهم بحسب ما يفهمون. 6- وأخيراً: التراجع عن الخطأ والاعتراف به، فالرجوع إلى الحق فضيلة. ولنختم الحديث بمثال من الحوار البناء المؤدب من التاريخ الإسلامي وقد حدث هذا الحوار في غزوة بدر حين تجمَّع المسلمون للقاء الكفار وكانت آبار المياه أمامهم وهنا نهض الحباب بن المنذر رضي الله عنه وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهو منزل أنزلكه الله؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال الحباب: يا رسول الله ماهذا بمنزل وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف بحيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وفعلاً أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي الصائب وكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة.وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحباب بن المنذر رضي الله عنه كان مسلماً إيجابياً، على الرغم من أنه أحد عامة المسلمين، وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي من السماء وهناك كبار الصحابة أصحاب الرأي والمشورة ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي، فتساءل أولاً إذا كان هذا الموقف وحي من عند الله أم أنه اجتهاد بشري فلما عرف أنه اجتهاد بشري وجد في ذلك مجالاً لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين وهذا الموقف يعطينا انطباعاً مهماً عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبل النصيحة، والله من وراء القصد والنية، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.