يدرك الاقتصاديون قبل غيرهم أن تطوير أي قطاع اقتصادي يجب أن يخضع لدراسات تأخذ بعين الاعتبار النظر إلى المستقبل، أو ما يعرف في أبجديات علم الاقتصاد بالأجل الطويل الذي يعتبر محكاً ومعياراً أساسياً لنجاح أي سياسة اقتصادية. ولعل بوادر تطوير قطاع السياحة الداخلية في الاقتصاد السعودي قد بدأت بقرار إنشاء الهيئة العليا للسياحة، الذي جاء ضمن حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي توجهت إليها الحكومة مؤخراً، إدراكاً منها بأهمية تفعيل النشاط الاقتصادي لمواجهة متطلبات المرحلة التنموية الحالية التي تمر بها المملكة العربية السعودية واستحقاقات مرحلة العولمة التي يمر بها العالم برمته. وعلى الرغم من أن إنشاء الهيئة العليا للسياحة قد شكل إطاراً مؤسسياً لقطاع السياحة في الاقتصاد السعودي، فإنه لا يمكن إغفال أن هذا القطاع الاقتصادي الحيوي كان حاضراً منذ زمن طويل ولم يكن ينقصه إلا هذا التأطير المؤسسي بعد أن كان يعاني من حالة تشتت، وإن كان ذلك التشتت لم يمنعه من أن يكون له إنجاز تراكمي فاعل كنشاط اقتصادي استحوذ على استثمارات مهمة واستقطب اهتمام نخبة رائدة من رجال الأعمال. ولعل الإحصاءات الأخيرة التي أفصحت عنها الهيئة العليا للسياحة تؤكد هذه الحقيقة، إذ أصبح لهذا القطاع دور مهم في تكوين هيكل الاقتصاد الوطني باعتباره المكون الثالث لإجمالي الناتج المحلي بنسبة قاربت 5 ،5%. وقد أحسنت الهيئة العليا للسياحة في تبني إصدار الخطة الوطنية للسياحة، وهي نظرة استراتيجية مستقبلية ترسم معالم هذا القطاع وتخلق مناخاً مواتياً للاستثمار فيه. وقطاع السياحة من القطاعات الواعدة في المستقبل، خاصة إذا تمكن من الاستفادة من تغير جرى لصالحه في الأجل القصير نتيجة لأحداث 11 سبتمبر 2001م وأثرها في عزوف بعض السعوديين عن السياحة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوروبية، هذا الأثر الذي يبدو قصير الأجل إلا أنه يخدم دون شك التوجه العام في الأجل الطويل. والفكرة هنا هي استثمار هذا التغيير في بناء توجهات السياحة الداخلية باعتبارها بديلاً ممكناً، وإن لم يكن كاملاً بالضرورة، عن السياحة الخارجية. ذلك لأن النظرة المستقبلية لقطاع السياحة الداخلية يجب أن تقوم على بناء فعاليات سياحية يمكنها أن تشكل بديلاً قوياً للسياحة الخارجية من ناحية، وخلق مفهوم جديد وتطويره وخاص للسياحة الداخلية يستوعب خصوصيات المجتمع ويبلورها في خدمات سياحية تتعامل بأدوات السياحة الحديثة ومقوماتها من ناحية أخرى، هذا التنوع في التفكير الاستراتيجي السياحي يفتح آفاقاً رحبة للاستثمار في هذا القطاع، وهذا ما يجعل منه صناعة من الصناعات الحديثة التي يمكنها أن تستفيد من مميزات الإنتاج الكبير الحجم من ناحية، ومن مميزات الترابط الأمامي والخلفي المعروفة في النظرية الاقتصادية بحكم أن صناعة السياحة يمكنها أن ترتبط بقطاعات صناعية أخرى في الاقتصاد. بل إن من أهم فوائد النشاط السياحي أنه يزيد الطلب على العديد من السلع والخدمات المنتجة محلياً. ولعل هذه ميزة يجب أخذها بعين الاعتبار عند دراسة الجدوى الاقتصادية للاستثمار في المشاريع السياحية من حيث ما يمكن أن تخلق من قيمة مضافة إلى الاقتصاد الكلي. هذا البعد الاقتصادي لمستقبل الاستثمار في القطاع السياحي يجب أن يكون ركيزة أساسية في تسويق الاستثمار في هذا القطاع، والتأكيد على ذلك في استراتيجية العمل السياحي والحرص على تجاوز بعض التحفظات التي قد يراها البعض بأنها احتياط من باب سد الذرائع أمام أي تغير قد يؤثر في بعض الجوانب الاجتماعية أو العادات السائدة في المجتمع، التي قد تصل إلى درجة الضغط. مهمة الهيئة العليا للسياحة صعبة ولكنها ليست مستحيلة. والأمل معقود عليها لتفعيل دور قطاع السياحة في الاقتصاد الوطني. ولعل ما يريح المراقب الاقتصادي في مستقبل هذا القطاع هو نهج الهيئة العليا للسياحة وتفكيرها التي تعاملت مع هذا الملف الاقتصادي الحيوي برؤية استراتيجية تأخذ الحاضر بعين الاعتبار وفق نظرة مستقبلية ترتكز على أسس علمية. وأي عمل يستند الى هذه المقومات ستكون فرص نجاحه كبيرة وسيكون قادراً على استقطاب اهتمام رجال المال والأعمال الذين يبحثون عن فرص بكر في اقتصاد يزداد انفتاحاً على العالم ويقدم نفسه كملاذ آمن للاستثمار وسيتيح فرصاً استثمارية منافسة في مناخ يتعامل مع العولمة كواقع اقتصادي.