«أمانة القلم وقيمة الخطاب والكلمة عظيمة الخطورة والأثر في كل وقت وهي أساس الوجود الحضاري للأمم ورسالات الله، وهي خطابات موجهة إلى البشرية عبر الرسل الكرام».. بهذه الكلمات القيمة افتتح فضيلة د. عبدالرحمن بن زيد الزنيدي أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حوارنا هذا حول أمانة القلم والكلمة وقيمة الخطاب ودور الكتّاب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولأن هذه الأمانة تعظم في هذا الزمن للملاحظ من تجاوزات عند بعض الكتَّاب الذين تضاربت عندهم المفاهيم وبدأ عند بعضهم مسلسل تقديم التنازلات على حساب هذا الدين، فكان هذا الحوار ليعطي التشخيص المناسب والعلاج لحمل هذه الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض، فإلى نص الجزء الأول من الحوار: لا غرابة أن يقع مفكر أو مثقف مهما كان في حبائل الشيطان حيثيات * خطورة الكلمة = قيمة الخطاب= أمانة القلم تتعاظم في وقتنا، ما هي جوانب هذه الخطورة في رأي فضيلتكم؟ - أمانة القلم وقيمة الخطاب والكلمة عظيمة الخطورة والأثر في كل وقت وهي أساس الوجود الحضاري للأمم ورسالات الله وهي خطابات موجهة إلى البشرية عبر الرسل الكرام، وبلا شك فقد تعاظمت هذه الخطورة في زمننا هذا وأصبح تأثيرها يتغلغل في أعماق النفوس وينتشر بين كافة قطاعات الناس وتعمقت هذه الخطورة من حيثيات عديدة، من حيث تعدد وسائلها، ومن سهولة الأداء فيها، وانتشار المعرفة والثقافة التي تسوق الناس للتفاعل مع تلك الوسائل والتنافس في ابراز الذات واثبات الأفكار لدى الآخرين. الجريمة الكبرى * تأصيلاً لهذه القضية نود توضيح التوجيه الإسلامي من خلال القرآن والسنة في شأن هذه الأمانة الخطيرة أمانة الكلمة؟ - الإسلام علم آتاه الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لتقوم عليه حياة الناس فالعلم الحق دين يتدين به المسلم لخالقه، والعلماء هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدين وإقامة الحياة عليه من خلال الكلمة والقلم والدعوة والخطبة والفتوى.. إلخ {وّلّكٌن كٍونٍوا رّبَّانٌٌيٌَينّ بٌمّا كٍنتٍمً تٍعّلٌَمٍونّ الكٌتّابّ وّبٌمّا كٍنتٍمً تّدًرٍسٍونّ} . وخيانة أمانة الكلمة هي الجريمة الكبرى إذا واقعها العالم المنتسب لشريعة الله حينما يكتم العلم الحق ويتخلى عن وظيفة العطاء الثقافي الذي تحتاجه الأمة إيثارا للراحة ونكوصاً عن المسؤولية، أومداهنة على حساب الحق لذلك كان وعيدهم شديداً {إنَّ الذٌينّ يّكًتٍمٍونّ مّا أّّنزّلًنّا مٌنّ البّيٌَنّاتٌ وّالًهٍدّى" مٌنً بّعًدٌ مّا بّيَّنَّاهٍ لٌلنَّاسٌ فٌي پًكٌتّابٌ أٍوًلّئٌكّ يّلًعّنٍهٍمٍ پلَّهٍ $ّيّلًعّنٍهٍمٍ پلاَّعٌنٍونّ}، ويقول صلى الله عليه وسلم «من كتم علماً يعلمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة». وتعظم الخيانة لأمانة الكلمة حينما يتجاوز المنتسب لعلم الشريعة مرحلة السكوت عن الحق إلى تلبيس الحق بالباطل وتزوير الحقائق وطمس الوعي السليم وإفساد الأذواق بترويج الضلال وإشاعة الانحرافات الفكرية بحجة الحرية، أو معرفة ما لدى الغير، أو مجرد مأجور يسخِّر قلمه ولسانه فيما يرضي مؤجريه ولو على حساب الحق والعدل والدين والقيم الفاضلة. وقد أنكر الله كل هذه المسالك ونهى المسلمين عن الوقوع في شيء منها {وّلا تّلًبٌسٍوا الحّقَّ بٌالًبّاطٌلٌ وّتّكًتٍمٍوا الحّقَّ وّأّّنتٍمً تّعًلّمٍونّ} وتبلغ جريمة التخلي عن المسؤولية وخيانة العلم والكلمة مداها الموغل في الضلال والجرأة على الله ودينه حينما يمارس هؤلاء وخصوصاً منتحلي صفة العلم الشرعي تحريف دين الله والتلاعب بنصوص الشريعة لتخدم أهواءهم وتكون شواهد على دعاواهم الباطلة باسم تأويل القرآن تأويلا يتسق مع الفكر المعاصر، أو عقلنة مبادئ الإسلام وأحكامه ونحو ذلك. وهذا ما وقع فيه ضلال أحبار اليهود قبل ذلك فأفسدوا دينهم وأضلوا أمتهم وحاربوا الله، قال سبحانه عنهم {وّإنَّ مٌنًهٍمً لّفّرٌيقْا يّلًوٍونّ أّلًسٌنّتّهٍم بٌالًكٌتّابٌ لٌتّحًسّبٍوهٍ مٌنّ الكٌتّابٌ وّمّا هٍوّ مٌنّ الكٌتّابٌ وّيّقٍولٍونّ هٍوّ مٌنً عٌندٌ اللّهٌ وّمّا هٍوّ مٌنً عٌندٌ اللّهٌ وّيّقٍولٍونّ عّلّى اللّهٌ الكّذٌبّ وّهٍمً يّعًلّمٍونّ}. والإسلام حينما أعلى مقام مسؤولية الكلمة جعلها مرتبطة بالإسلام نفسه بمعنى أنه مجرد كونك مسلماً فأنت تحمل هذه الأمانة أياً كان مستواك الثقافي وموقعك الاجتماعي فالعلم ليس درجة واحدة ولكنه ينقسم، فمسؤوليتك بحسب قدرتك وإمكاناتك وعلى هذا تأتي النصوص الشرعية التي تأمر المسلم بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله وللناس والدعوة إلى دين الله على بصيرة وتعليم القرآن والدين «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ...»، «بلِّغوا عني ولو آية» ويقول سبحانه {وّقٍل لٌَعٌبّادٌي يّقٍولٍوا الّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ}. الأمن الثقافي * في ظل الأوضاع التي تحيط بالأمة وتزعزع استقرارها ما هو دور الكلمة = ما هي وظيفة القلم في تحقيق الأمن الثقافي؟ - الأمن الثقافي هو الأساس لكل صور الأمن الوطني - الاقتصادي - السياسي.... إلخ وإذا تحقق الأمن الثقافي للمجتمع أصبح من التماسك ورشد الاستجابة إزاء كل صور الاستفزاز أو حتى الهزات التي يمر بها بحيث يتجاوزها وتتلاحم قطاعاته فتحول دون اختراق الأعداء له. * كيف نحقق الأمن الثقافي؟ هذا هو السؤال المهم هنا؟ - لا يتحقق الأمن الثقافي في المجتمع المسلم إلا من خلال تنوير رشيد لأفراده في الشرائح كافة، ومعنى رشد التنوير أنه مرتكز على أصول القيم التي يقوم عليها المجتمع وهي قيم الإسلام التي جاء بها الكتاب والسنَّة بحيث ينسجم ما يتلقاه الناس عبر وسائل التثقيف - المدرسة، وسائل الإعلام.... إلخ - مع ما هو مستقر في مشاعرهم ونفوسهم ومع ما هو راسخ في فطرهم السليمة. إن تجاوز التنوير الرشيد خطوة فاشلة كما أثبت ذلك التاريخ كما أن تجاوزها إلى إغراق المجتمع بقيم منافرة لقيمه مستوردة من أمم تختلف في منطلقاتها وتحولاتها التاريخية عن المجتمع المسلم فاشل هو الآخر وفق ما انتهت إليه موجة التغريب الكاسحة خلال القرن العشرين المنصرم ومثل ذلك يقال في المنهج الحداثي الذي يقوم على قطع الأمة عن تراثها وتكثيف الحواجز بينها وبين دينها لتندمج اندماجاً كلياً في تيار العصر دون أي خلفية تتبصر بها وتركن عليها. إن كل هذه الطرائق لا تمثل فشلاً سلبياً في تحقيق الأمن الثقافي وحسب ولكنها تؤدي إلى الضد، إلى الاضطراب الاجتماعي والتوحش الثقافي والبلبلة الفكرية وزوغان العقل عن تحقيق أي سداد في النظر أو التخطيط أو اتخاذ موافق حكيمة، أو الشعور بروح الولاء للجماعة والوطن، وتاريخ الأمة المعاصر شاهد حي على هذه الحقيقة العظمى. وهج الحضارة * الإغراق، القطيعة - رغم خطورة هذه المسالك فإنها ليست محدودة بقلة جاهلة ولكنه تيار بل تيارات من الكتاب والصحفيين.. سؤالي: ما السبب الذي جعلهم ينتكسون في هذا المجال ويصادمون ويحطمون أمتهم؟ - الكلام في هذا يطول وقد أصبح تاريخاً، إنه يعود بنا إلى ما قبل أكثر من قرن حينما واجهت الأمة الإسلامية العالم العربي بحضارته وتقدمه التقني وتنظيماته الاجتماعية المؤسسية، وهي - أقصد الأمة الإسلامية - تعاني من التخلف في كافة مجالاتها، فكان من ثمار ذلك بروز فئات من أبناء الأمة الإسلامية بهرهم وهج هذه الحضارة فأزاغ بصائرهم عن وعي الحقيقة في تقدم الغرب وتخلف المسلمين وقاسوا قياساً خاطئاً وضع الأمة الإسلامية على الغرب، فما دام الدين الكنسي كان سبب تخلف الغرب حضارياً وأن حركة التنوير التي خرجت على اطارات ذلك الدين إلى درجة المصادمة لكثير من عقائده ومسلماته هو الذي حقق طفرتهم الحضارية فإن المسلمين لكي يحققوا نهضتهم ينبغي لهم سلوك ذلك الطريق والتفلت من دينهم والاندراج في طريق علمنة الحياة وابعاد الدين عنها، وينبغي أن ندرك أن الغرب قد ربى فئات من هؤلاء لكي يقدموا بعد رحيل جيوشه المستعمرة لبلاد الإسلام - مهمة - حرب الدين وتحطيم مقومات الأمة، ولا غرابة أن يقع مفكر أو مثقف مهما كان في حبائل الشيطان وأن تحول بعض المنافع العاجلة أو ضلالات الفكر التي رسخت في ذهنه مهما كانت ناصعة مع العلم بأن أغلب هؤلاء جاهلون بحقيقة الإسلام وإن انتموا إلى أمته وإنما تلقوه عبر أساتذتهم المستشرقين.