حلقات كتبها وصوّرها بشير بن سعد الرشيدي « الجزيرة » تحط رحالها اليوم في واحدة من أهم قرى منطقة حائل الشق بلدة التاريخ والقلاع والحصون والمياه العذبة والأرض الخصبة باعتبارها تشكل مادة تاريخية خصبة لما فيها من أسرار وآثار ونقوش يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد واختراع اللغة ورغم ماضيها العريق وتاريخها الموغل في القدم لم تخل من ساكنيها الذين استوطنوها عقوداً من الزمن ووضعوا تصوراتهم ومخربشاتهم على سفوح جبالها بالنحت والرسم والكتابات مما يدل على حضارة باكرة صنعها الإنسان البدائي وما زالت باقية في هذه البلدة. التسمية «شَقُّ»، بالفتح عن الزمخشري وقيل بالكسر. والشق قرية من قرى فدك «الحائط» ورد ذكرها في معجم البلدان للشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبدالله ياقوت الحموي في المجلد الثالث ص355، كما ورد ذكرها أيضاً في مجلد المغانم المطابة في معالم طابة للشيخ مجد الدين أبي الطاهر الفيروزابادي ص207 كما تحدث عنها علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في عدد من مؤلفاته. الموقع الجغرافي والمناخ والسكان تقع بلدة الشق في الجنوب الغربي من منطقة حائل بمسافة 235كم وتحديداً شمال مدينة الحائط بمسافة 17 كم وترتبط ارتباطاً إدارياً بمركز إمارة مدينة الحائط ويعتبر مناخها قارياً ممطراً شتاء وحاراً جافاً صيفاً وتضاريسها بصفة عامة مستوية تتخللها بعض الأودية والشعاب وتعتبر منطقة رعوية تكثر بها النباتات الطبيعية وأشجار الطلح والرمث والحمض والشيح ويبلغ عدد سكانها 5000 نسمة تقريباً يعملون بالتجارة والزراعة وتربية المواشي. آثار الشق التاريخي يعتبر آثار الشق من أهم المواقف الأثرية بالمملكة العربية السعودية حيث فيها أقدم نقوش الإعراب التي يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد واختراع اللغة. وقد بدأ الإنسان البدائي إنسان ما قبل التاريخ في الاستقرار والتوطن بهذه البلدة وبدأت تظهر حضارته وخربشاته على صخورها البركانية التي تحيط بالبلدة بجميع جهاتها الأربع وبرز بفنه الرائع الذي لم تمسه آلات الصقل الحديثة من خلال الرسم والنحت والكتابات الإسلامية والرموز على تلك الجبال وكان حيوان الرعي الشغل الشاغل للإنسان القديم، كما يدل على ذلك كثرة الصور على سفوح جبالها تعبيرا عن حالة وتصاوير أهل القرية آنذاك. وشكلت الوعول والإبل والغزلان والتيوس ذات القرون الطويلة حيوانات رئيسية في الحياة القديمة بالإضافة إلى نقوش ورموز وجدت على صخورها البركانية تعود إلى عصر ما قبل الميلاد فهي بحق تحفة أثرية ومادة تاريخية خصبة تستحق البحث والاهتمام لما فيها من أسرار وآثار لم تكتشف بعد ولو أن ما اكتشف حتى الآن يعتبر معجزة تاريخية يندر وجودها في شبه الجزيرة العربية وخاصة قلاعها العجيبة التي صممت على أشكال هندسية مدهشة ومثيرة، فلا يخلو أي موقع من البلدة إلا وتجد معلماً أثرياً جديداً واكتشافاً فريداً وكنزاً ثميناً من كنوز تاريخنا المجيد وتؤكد المصادر والطلاسم أن تاريخ هذه النقوش يعود إلى 665 ق.م. القلاع والحصون تتميز بلدة الشق بعدد من القلاع القديمة ذات التصميم الرائع والشكل الهندسي الفريد وتعتبر قلاع البلدة من أهم القلاع بالمنطقة الوسطى، ويطلق على هذه القلاع لفظ hydmomd أو المحطات التجارية station ومن أهم تلك القلاع ما يلي: 1- قلعة معينة: وتقع في وسط البلدة وتحديداً في الجزء الجنوبي منها وقد شيدت هذه القلعة في العهد اليوناني والروماني لتكون محطة تجارية صممت على شكل مستطيل وقد اختيرت أمجادها بعناية من حيث الشكل والسمك والطول والعرض، حيث يبلغ عرض الجدار 50 ،1 وأحجارها مرتبة لا ترى بها ارتفاعاً أو انخفاضاً وضعت فوق بعضها البعض على نحو يجعلها مترابطة ومتماسكة ويبلغ طول هذه القلعة 35مx35م موزعة على 12 غرفة وصالة واستراحة للعربات والحيوانات والأمتعة وغرفة للحارس بجوار القعلة. 2- قلعة الهوز: وتقع جنوب القرية وتبعد عن القلعة الأولى 1 كم فهذه القلعة صممت لتكون لغرض وضع بعض المحميات العسكرية آنذاك لحراسة الطرق كما هو متبع في القلاع التي شيدت في شبه الجزيرة العربية ومصر والشام حيث تتشابه تلك المباني ويبلغ طول هذه القلعة 25x30م وتحتوي على 10 غرف وصالة واستراحة ومستودع لحفظ الذخيرة ويوجد بأعلى القلعة برج للمراقبة للإشراف على نواحيها واللجوء إليها في الحروب أو الظروف الطارئة ومع ذلك ما زالت تلك القلاع قائمة تثبت ماضيها العريق وتاريخها الموغل في القدم. أبراج المراقبة والحراسة يبلغ عدد أبراج المراقبة أكثر من 30 برجاً في أماكن مرتفعة وذلك لغرض الحراسات الأمنية والإشراف على حدودها، وقد استخدمت للمراقبة الدائمة من قبل حارس يستخدم «المرآة» وهي سر الإشارة فيما بينهما وتعد «المرآة» وسيلة الاتصال المباشر حيث يلوح الحارس لزميله الآخر بالأبراج المقابلة وذلك في حالة وجود شخص غريب لمراقبته أولاً بأول كما يوجد بتلك الأبراج العجيبة أماكن لحفظ الذخيرة والأمتعة وما يحتاجه الشخص من ماء وغذاء وغيره. بالإضافة إلى وجود عدد هائل من الثقوب في كل برج وتستخدم هذه الثقوب للأسلحة للتصدي لأي عدو قادم في الزمان السابق وتعد حصوناً آمنة ومنيعة لا يخترمة الرصاص وتمتد الأبراج على طول مساحة القرية وبمساحات قريبة من بعضها البعض، ويبلغ مساحة كل برج بما يقارب 2x2م، وبها مداخل ضيقة جداً وكتابات ثمودية ورموز يصعب فكها وتحليل معانيها. خط المسند والعربي بلدة ممتعة حقاً تستحق الزيارة والبحث والاهتمام لما فيها من أسرار وآثار لم تكتشف بعد، ولو أن ما اكتشف حتى الآن يعد كنزاً ثميناً لابد من المحافظة عليه. أثناء جولتي في مواقعها الأثرية وبصحبتي رفيق رحلتي الأستاذ محمد علي المرزوق كان حريص على التقاط الصور النادرة والغريبة ويكرر علي سؤالاً لم أستطع الإجابة عليه هل ما نشاهده اليوم من صنع البشر والحضارات السابقة؟! إنها بحق معجزة التاريخ وحضارة الأمم التي مضى عليها عقود من الزمن مخلدة ذكرى وبصمة حضارة باكرة في هذه المواقع التاريخية والأثرية والتي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد. فمعظم جبالها وقلاعها تتميز بنقش خط المسند والعربي وقد أطلق على هذه الخطوط «المسند» لأن حروفها ترسم على هيئة مسندة إلى أعمدة وبذلك سميت المسند إلا أن هذه الحروف والرموز يصعب فك رموزها إلا عن طريق مختص يترجمها ويوضح معانيها. كتابات في عصر الإسلام منذ بداية التاريخ الجاهلي وإنسان البداوة إلى آخر العصر الإسلامي وهذه المنطقة تتعاقب عليها الأمم والشعوب حيث يلاحظ نقوش وكتابات دونت في صدر الإسلام وباللغة العربية التي تفتقر للنقط ويمكن إرجاع تاريخها إلى صدر وبداية الإسلام لأنها عبارة عن دعاء إلى الله «اللهم اغفر.. وارحم أنك على كل شيء قدير» كما يوجد هناك نقش على سفح الجبل الشمالي بلفظ الجلالة «.. بسم الله»، وهذه النقوش منقوشة على أحجار بركانية سوداء قد رسمها الفنان الجاهلي في عصور ما قبل الميلاد ومعاد استخدامها في صدر الإسلام. العيون والآبار الأثرية عندما اتجهنا شرقاً أثناء جولتنا الميدانية بالبلدة فوجئنا بوجود أحجار سوداء بعضها مطمور تحت الأرض والآخر ما زال قائماً وأكد لنا كبار السن بالقرية ان هذه الأحجار تسمى «خرز العين» أي مسار العين التي انهارت معالمها واندثرت وأصبحت في طي النسيان ويذكر أن بلدة الشق يوجد بها عيون في السابق ومن أهم تلك العيون ما يلي: 1- عين أثقب: وهي من أهم العيون الجاهلية ويطلق عليها اسم عين أثقب نسبة للجبل الشهير المحيط بالقرية ويمتد مسار العين إلى مسافة 15 كم منتهياً بقرية مرحب ذات الأرض الخضراء والتربة الطينية الخصبة. 2- عين الهوز: وكانت في السابق تتدفق بغزارة وأصبحت تشبه بحد كبير Tumatu التي هي من صنع الإنسان وقد لحقها الجفاف مؤخراً. 3- بئر صبرة: وهذه البئر من أهم الآبار الجاهلية، وقد بنيت من الحجر البركاني الأسود ويبلغ طولها 23 م وبعرض 2 م وما زالت قائمة وكانت وسيلة الري سابقاً الدلو والسواني. 4- بئر معينة: وتقع جنوب القرية إلا أنها اندثرت وانهارت. 5- بئر الهوز: وهي عبارة عن نبع مياه يبلغ طولها 70 ،1 م وتتميز بعذوبة مياهها. 6- بئر القلعة: وتقع بجوار مزارع الرشيد ويبلغ طولها 12 م وما زالت قائمة. التعليم إن ما يشاهد على سفوح جبالها من كتابات إسلامية كتبت في صدر الإسلام على سفوح جبالها يدل على أن التعليم قد عايش المنطقة باكراً وكان التعليم السابق عن طريق «الكتاتيب» ويعرف المعلم في القديم «المقري» وتقام حلقات التدريس والعلم بالمساجد المبنية من القش والطين وخشب الأثل والطلح ومن أبرز كتاتيب الشق الشيخ صالح بن عوض المضيان «المفتي» حيث يتوافد عليه طلبة العلم ويعقد حلقات ودروساً علمية وتتملذ على يده عدد من أبناء البلدة وكان رحمه الله زهيداً كريماً ذا خلق رفيع وسعة صدر حفظ كتاب الله ودرس الفقه والتجويد وبعض العلوم الدينية وتفسير الأحلام وساهم بشكل كبير في نشر التعليم بالبلدة وما جاورها وكذلك الشيخ نافع بن عايض الهشاش «المطوع» رحمه الله خطيب وإمام جامع الشق ويقال: إن معظم أهالي القرى المجاورة للشق ومنها فيضة أثقب الوسعة ثويليل العرادية بدائع أثقب عدوة أثقب الباحة أبو سهيلات يقيمون إقامة مؤقتة أثناء دخول شهر رمضان المبارك بجوار منزل الشيخ الهشاش لغرض أداء صلاة التراويح وكان رحمه الله يؤم المصلين وبعد أن أشرقت شمس الحق وجاء موحد هذا الكيان العظيم جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته انتشر التعليم في مختلف مراحله وأسست المدارس وامتدت إليها يد الخير والعطاء في أرض المحبة والنماء وصار التعليم ينتشر في كل موقع وجزء من أرجاء الوطن الكبير. الشق.. والشعر الجاهلي تغنى في بلدة الشق عدد من شعراء العصر الجاهلي حيث قال أبو الندى: من عجوة الشقِ تطوف بالودك ليس من الوادي ولكن من فدك وقال ابن مقبل: ينازعُ شقيَّاً كأن عنانهُ تفوق به الأقداع جذعٌ منقَّحُ وقال الزمخشري: رميتُ نطاة من الرسول بفيلقٍٍ شهباءَ ذاتِ مناكبٍ وفقار صبحوا بني عمرو بن زرعة غدوة والشقُ أظلم ليلهُ بنهار الإنتاج الزراعي والمياه تشتهر بلدة الشق بزراعة النخيل كمصدر غذائي مهم وتعتبر عجوة الشق من ألذ وأجود تمور المنطقة كما تغنى بها الشاعر أبو الندى وقال: من عجوة الشق تطوف بالودك ليس من الوادي ولكن من فدك وتعتبر الحلوة من أفضل أنواع النخيل بالبلدة بالإضافة إلى المكتومي والجسبة والبرحي والخضري والفرسي بالإضافة إلى القمح والشعير والذرة والحنطة والبرسيم أما بالنسبة للمياه فهي سطحية وتتراوح أطوال آبارها من 25م إلى 50م . وقد لحق الجفاف بالعديد من آبارها نتيجة افتقارها للسدود إلا أن الأهالي طموحهم لم يتوقف لما عرف عنهم من تعاون وتجاوب فيما بينهما فأقاموا سدوداً بجهودهم الذاتية وهي عبارة عن حواجز ترابية من الحصاء والطين على بعض الأودية المحيطة بالبلدة وقد ذكر لنا المزارع عوض بن عايض الفايز أن معظم المزارع استفادت من تلك السدود المقامة بالجهود الذاتية وأكد ان مندوبي وزارة الزراعة والمياه وقفوا على هذه السدود التي أنشئت بجهود الأهالي، وتم إعداد الدراسات اللازمة لإدراجها ضمن المشاريع المستقبلية مطالباً في الوقت ذاته معالي وزير المياه الدكتور غازي القصيبي بالنظر في موضوع إنشاء سد على وادي الشق الذي يتوسط مزارع البلدة وذلك لزيادة مخزون المياه في هذه المنطقة مشيرا إلى أن قرى جنوب المنطقة ككل لا يوجد بها أي سد مما جعلها مهددة بالجفاف. وقال: إن قيادتنا الرشيدة أيدها الله حريصة على تحقيق رغبات وطلبات المواطنين ونحن واثقون بأن معالي الوزير سوف يتحقق أماني وأحلام أبناء هذه القرية الحالمة. أهمية ترميم القلاع وأثناء مقابلتي لأمير قرية الشق الأستاذ منصور بن سعود الشويلع قال: إن بلدة الشق من أقدم المنطقة وتشهد نهضة عمرانية وكثافة سكانية، ويوجد بها مرافق حكومية ومنها مدرسة بنين ومدرسة بنات ومراقب آثار ومأذون شرعي وحظيت بالاهتمام والدعم الدائم من سمو أميرنا المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز أمير منطقة حائل وسمو نائبه حفظهما الله الذين يوليان كافة مدن وقرى المنطقة جل اهتمامهما إلا أن هذه البلدة الأثرية التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد بحاجة ماسة إلى عدد من المرافق الحكومية. ومن أهمها مركز إمارة ومركز شرطة ومركز صحي ومتوسطة بنين وبنات بالإضافة إلى ربطها بطريق الحائط الشمالي الذي لا يتجاوز 5 كم فقط مطالباً وحدة الآثار بالمنطقة بأهمية ترميم القلاع التي انهار معظمها واندثر ولاسيما وأنها تشكل أهم قلاع المنطقة ويرتادها آلاف السياح من داخل المملكة ومن خارجها وأشار إلى أهمية إنارة شوارع البلدة ورصفها بالشكل الذي يليق بتطورها العمراني والسكاني وتطرق ابن شويلع إلى جانب المياه فقال: إن البلدة بحاجة إلى إقامة سد ومشروع لسقيا الأهالي أسوة بقرى المنطقة. مطالبة خدمية والطريق الحلم رغم ما تقدم من شرح واف عن هذه البلدة ما زالت آثار الشق مجهولة والطريق إليها صعب وشاق فهي بلدة حالمة قابلة للنمو والتخطيط العمراني تشهد كثافة سكانية وحركة عمرانية وأسواقاً تجارية وتعتبر مركزاً إدارياً وتجارياً لمعظم القرى المحيطة بها فالطريق المؤدية إليها جعلت أحلام الأهالي والباحثين يشوبها اليأس ولكن عندما أعلن عن اعتماد طريق الشملي/الحائط جعلها على حافة زمن جديد خصوصا وهي لا تبعد عن هذا الطريق سوى 5 كم فقط. فهي قرية أثرية وسياحية يرتادها الزوار والباحثون والسياح إلا أن صعوبة وعقبة الطريق أعاقت الوصول إليها فمنذ أربعين عاماً والأهالي ينتظرون شريان الحياة الطريق المسفلت فهل يتحقق حلم الأهالي بعد اعتماد طريق الحائط/الشمالي؟.. نتمنى ذلك.