هناك صور ذهنية تقبع في عقل كل إنسان عن المدن التي زارها أو تلك التي قضى جزءًا من حياته فيها. مسألة تشكُّل الصورة الذهنية عن المدينة أصبحت محل اهتمام لدى صناع القرار حول العالم، ولعبت دورًا حقيقيًّا في استكشاف عوامل القوة ومكامن الخلل داخل المدن، وخصوصًا عندما تتكرر الصورة ذاتها لدى شريحة واسعة من البشر؛ لتمثل حالة إجماع، يندر أن تخطئ. السؤال عن الصورة الذهنية للمدن السعودية جدير بالطرح في هذه المرحلة الحاسمة التي نسير فيها على ضوء رؤية طموحة، تروم جعل مدننا في مراتب متقدمة على المستوى الدولي. وسبر أغوار الصور المتشكلة ذهنيًّا يتطلب إجراء استبيانات واسعة النطاق، تشمل المواطنين والمقيمين والزوار؛ لتعيننا نتائجها على اتخاذ القرارات الصائبة للارتقاء بجودة الحياة في المدن. والأهم من ذلك أنها ستكشف لنا مدى التقدم المتحقق في هذا المؤشر الرئيس انطلاقًا من أثر المدينة في الذهن البشري وما تتركه من انطباعات وتجارب بعيدًا عما تقوله مؤشرات الأداء الرقمية التي قد ترتفع دون أن تحقق المستهدفات المرسومة. المنظِّر الحضري الأمريكي كيفن لينش من أوائل من تنبهوا إلى أهمية الشكل الإدراكي للبيئات الحضرية، ويعد كتابه «The Image of the City» مرجعًا في هذا المجال. عمل لمدة خمسة أعوام على تحليل الصورة الذهنية لثلاث مدن أمريكية (بوسطن، جيرسي سيتي ولوس أنجلوس). خلص إلى أن تشكيل الخرائط الذهنية عن المدينة ينطلق من خمسة عناصر، أولها الممرات والطرق والأرصفة ومختلف الوسائل التي يتنقل من خلالها الإنسان. وثانيها الحدود، ويُعنى بها المباني والجدران والأبراج والشواطئ. وثالثها الأحياء السكنية وما تتميز به من هوية عمرانية ومعمارية. ورابعها المواقع المحورية وهي التردد السكاني المرتفع ذاته. وخامسها المعالم البارزة التي يمكن التعرف عليها بسهولة، ولا مثيل لها في أي مدينة أخرى. العناصر الخمسة يمكن إسقاطها على المدن السعودية الكبرى، والبدء بإجراء تقييم شامل لكل عنصر منها. هي - بلا شك - ستجعلنا أمام اختبار أداء حقيقي، يتضمن دراسة لحالة الطرق والأرصفة والجسور والأنفاق، وفحصًا لجمالية المباني والواجهات المعمارية، وتمحيصًا لهويات الأحياء السكنية، وتركيزًا على فاعلية مراكز المدن وأهلية نقاط الجذب فيها، وتأسيسًا لمعالم استثنائية في كل مدينة. أخيرًا، عملية التطوير المنتظرة في المدن السعودية تتطلب اعتمادًا على أمثال تلك الدراسات التي اشتغل بها كيفن لينش. دراسات تركز على ما يعلق في ذهن الإنسان خلال تفاعله المستمر مع المدينة وفي فضائها العمراني. معرفة الصورة الذهنية الحالية عن المدن ستمنحنا رؤية أوضح لتحديد الأولويات، وقدرة أعمق على إدارة الموارد بكفاءة لتحقيق الارتقاء المنشود.