لم يشكِّل السلام نهجاً خالصاً في ثقافتنا العربية، لكن توجد إشارات من هنا وهناك عن فلسفة السلام، لتكون أرضية للاستقرار، فالحروب كانت نهجاً طغى على الحالة السياسية في تلك العصور، وقد يكون الوضع العام مستفزاً لحالة الحرب، نظراً لوجود قوى مجاورة للدولة العربية، لكنها وصل إلى وضع التدمير الذاتي عندما اشتعلت الحرب الأهلية بسبب حروب الطوائف، فتآكلت الدولة العربية الكبرى، ثم سقطت تحت سيطرة الأمم الأخرى، ثم تكالبت عليها الأمم وأضعفتها إلى درجة الوهن. لأسباب عديدة توارت سيرة عمر بن عبدالعزيز عن هذا المشهد، وذلك عندما استطاع في سنتين أن يحقق نوعاً من السلام الشامل، وقد لا يعرف في تاريخ الإسلام اسم أكثر إيماناً بالسلم من عمر بن عبد العزيز، فهو الرجل الذي يمثل الأفق الأعلى للنزاهة والكرامة والمساواة في التاريخ الإسلامي، وقد حظي باحترام الجميع حتى أطلق عليه الفقهاء والمؤرخون لقب الخليفة الراشدي الخامس. كان على قصر أيامه التي حكم فيها 715-718م مدرسة كاملة في العدل والسلم الاجتماعي وفي مكافحة الفساد، وفي التقوى والاستقامة، فقد ورث عمر بن عبد العزيز إمبراطورية مترامية الأطراف، وكان المسلمون قد اندفعوا إلى الفتوح بشكل كبير، فكانت جيوشهم على أبواب الصين شرقاً، وفي الأندلس على تخوم الغال، وكانت جيوشهم تحاصر القسطنطينية. لقد أدرك الخليفة العادل أن هذا المشهد لن يحقق السلام في الأرض، وأن الاندفاع لاحتلال الشعوب وإرغامهم على الجزية عمل لا يؤدي في نهاية الأمر إلى السلام، فالإيمان عمل من أعمال القلب ولا إكراه في الدين، وقد تحولت الفتوح إلى ممارسات حربية لا علاقة لها برسالة الإيمان والهدى، على الرغم مما تحظى به الفتوح من شعبية وتشجيع لدى عموم الناس. وحين شكا له عدد من عمالة أن سياسته هذه ستفقر الخزينة، فالناس لم تعد تدفع الجزية، ولا الضرائب المفروضة غضب عمر أشد الغضب، وقال لواليه: إن الله أرسل محمداً هادياً ولم يرسله جابياً، ولاحت فكرة غير سوية في ذهن واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي فقال: إن الناس يدخلون في الإسلام هروباً من الجزية والمكس فلو امتحنتهم بالختان!..، قال له ويلك: إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه خاتناً، وثم عزله على الفور لأفكاره غير السلمية، وولى مكانه عبد الرحمن بن نعيم القشيري. من المعروف أن تعريف السلام أمر صعب، وهذا يمثل تحديًا خاصًا لصياغة أي فلسفة شاملة للسلام أو أي نقاش حول ما يمكن أن يشكل فلسفة شاملة للسلام يتداخل دائماً مع أسئلة أوسع حول معنى وهدف الوجود الإنساني، ومن المفارقات أن مشكلة التعريف هي مفتاح لفهم ما ينطوي عليه صياغة فلسفة السلام بشكل عام، ويمكن للمرء أن يفرق بين السلام السلبي، أي الغياب النسبي للعنف والحرب، عن السلام الإيجابي، أي وجود العدل والعلاقات المتناغمة. قد يشير المرء أيضاً إلى السلام التكاملي، الذي يرى السلام على أنه يشمل الأبعاد الاجتماعية والشخصية. تقوم فلسفة الحوب على معاملات مبنية على التسلط ونشر الرعب والإكراه، لكن يقوم السلام على تقوية العلاقات الاجتماعية، وتقنين المساواة ونشر العدالة، وصهر الأضداد في المصلحة العليا، وهي تصل في نهاية الأمر إلى حالة الاستقرار وعدم الخوف، وأن الدين لم يأت لإرغام الناس على الهداية، ولكن لنشر السلام والعدالة من خلال المعاملة الحسنة والنزاهة، وظهر ذلك في جنوب شرق آسيا، فقد كان تأثير المهاجرين المسلمين طاغياً على سياسة الحروب، وكم يحتاج العقل العربي في هذا الزمن أن يعزز هذه الثقافة ويبني من خلال التعليم والمعاملات نهج السلام وأدواته وأسبابه حتى نصل إلى بر الأمان والرضى..