عمَّت شعوب المنطقة الخليجية والعربية منذ مطلع العام الميلادي الجديد 2021 فرحة عارمة بعودة العلاقات وحل الخلافات ووقوف القيادات صفًا واحدًا على أرض المملكة العربية السعودية في مدينة العلا، حيث عُقدت قمة المصارحة والمصالحة ورأب الصدع، وتوقيع البيان الختامي للقمة التي أذابت الجليد وأنهت سنوات المقاطعة وأعادت الدفء للعلاقات الأخوية بعد موافقة دولة قطر للعودة إلى البيت الخليجي واستئناف العلاقات الدبلوماسية التي لم يكن لها أن تتحقق لولا حكمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وحنكة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إضافة إلى دور الوسيط الكويتي الذي بذل جهودًا كبيرة لحل الأزمة الخليجية مع دولة قطر الشقيقة. كان العالم أجمع يثق بأن الدبلوماسية السعودية بتوجيهات الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان ستتمكن لا محالة من إعادة ترميم البيت الخليجي وتحصين منظومة دول مجلس التعاون الخليجي ضد التدخلات الإقليمية التي حاول صانعوها استثمار واستغلال هذه الأزمة بالعمل على تعميق الفجوة وتعقيد الخلاف مع دولة قطر أملاً في تفكيك المنظومة الخليجية وعزل دولة قطر خليجيًا من خلال تقديم عروض لتشكيل تحالفات سياسية وبناء قواعد عسكرية وإبرام اتفاقيات وصفقات تجارية مع دولة قطر الشقيقة مقابل التواجد العسكري لهذه القوى الإقليمية. وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان «الاستثمار الأجنبي في مناطق التوتر», وكذلك مقال «تركيا والاستثمار بالقدرات العسكرية في الأزمات الإقليمية», فإن تركياوإيران تسعيان دائمًا إلى اقتناص فرص التواجد العسكري في مناطق التوتر بغية توسيع نطاق سيطرتهما على المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج. وها هي ميليشيات إيران تتواجد عسكريًا في سوريا ولبنان والعراق واليمن، كما تتواجد تركيا عسكريًا في سوريا وليبيا وأذربيجان، ودخلت أيضًا في قطر مع بداية المقاطعة الرباعية. وبالرغم من أن الوجود العسكري لهاتين الدولتين يتم بناء على طلب الأنظمة الحاكمة في بعض دول الإقليم التي تشهد نزاعات مسلحة، إلا أن وجودهما يأتي لأجل إشعال مزيد من الحرائق وزعزعة الاستقرار السياسي والأمني لبسط نفوذهما عسكريًا على أنقاض الحروب الأهلية والخلافات السياسية، وليس لتحقيق الاستقرار وإطفاء الحرائق المشتعلة في دول الإقليم. ولا زالت الشعوب الإسلامية تتذكر قمة كوالالمبور عام 2019 التي انعقدت في العاصمة الماليزية بحضور قطروتركيا في محاولة لشق الصف الإسلامي آنذاك والدعوة لتشكيل تكتل إسلامي منشق عن منظمة التعاون الإسلامي، ولكن القمة لم يكتب لها النجاح، إذ قاطعتها الدول الإسلامية والعربية لانعقادها خارج إطار منظمة التعاون الإسلامي ودون علم وموافقة المملكة العربية السعودية، كما أوضحت ذلك سابقًا في مقال بعنوان «قمة كوالالمبور.. والتغريد خارج السرب». ونتيجة لحكمة السياسيين وصناع القرار في دول الخليج العربي الذين يدركون تمامًا أبعاد التدخل الأجنبي في القضايا الخليجية، فقد درأت قمة العلا خطر التدخل الإيراني التركي في الشئون الداخلية لدول المجلس، ووأدت أحلامهم وأجهضت مخططاتهم للتسلل والتغلغل عبر البوابة القطرية، وبذلك تمكن القادة -بفضل الله- من إعادة قطر إلى البيت الخليجي الكبير وتجاوز مرحلة الخلافات لتحقيق تطلعات الشعوب الخليجية كما ورد في الكلمة الافتتاحية لقمة العلا التي ألقاها الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، والتي تضمنت التأكيد على التضامن والاستقرار الخليجي والعربي والإسلامي, وتعزيز أواصر الود والتآخي بين دول المجلس وشعوب المنطقة بما يخدم آمالها ويحقق تطلعاتها. لقد أدت السياسة القطرية في الفترة ما بين 2013 - 2017 إلى أزمة اجتماعية تمثلت في معاناة الشعب القطري الشقيق الذي وجد نفسه معزولاً عن محيطه الخليجي وممنوعًا من عمقه الإستراتيجي، فضلاً عن تأثر الاقتصاد القطري بتداعيات الموقف الرسمي لدولة قطر غير المنسجم مع ميثاق مجلس التعاون الخليجي بسبب مساره المعاكس لتوجهات سياسة الدول الأعضاء والمخالف لمبادئ حسن الجوار الخليجي، ما أدى إلى تدخل إيرانوتركيا لخطف قطر من البيت الخليجي ثم البحث عن فرصة بناء قواعد عسكرية ونهب الغاز مقابل فتح ممرات جوية لقطاع النقل الجوي القطري الذي تضرر كثيرًا بسبب المقاطعة. لقد سعت كل من إيرانوتركيا إلى تعميق الشرخ في علاقات دول مجلس التعاون لتكون نقطة انطلاق نحو زعزعة الاستقرار وتفكيك المنظومة الخليجية المتماسكة، ناهيك عن محاولات تهديد أمن الملاحة البحرية في الخليج. ولذلك فإن حكومات الدول الخليجية تدرك تمامًا خطورة استغلال واستمرار نزيف الجرح الخليجي لصالح أجندات سياسية لها مطامع توسعية في المنطقة العربية. ويعلم كل مراقب للشأن الخليجي والعربي أن إيرانوتركيا لا تدخلان دولة إلا وانعدم فيها الاستقرار وساد الخراب والدمار، كما تبين لنا الشواهد والوقائع التاريخية في العراقوسوريا واليمن وليبيا. ومن هنا يعلم المراقبون والخبراء أن تحصين البيت الخليجي هو الضمانة الوحيدة لتوخي خطر العدو الخارجي على المنطقة الخليجية والعربية والإسلامية. ولذلك فقد ساهمت عودة قطر الشقيقة إلى إعادة مد جسور التواصل والتقارب بين الدول والشعوب الخليجية، وقطع كل الطرق أمام القوات المرتزقة وأمام الأصوات والأقلام الإعلامية المأجورة.