مضى زمن كنا نوافق فيه معلمينا على أن التاريخ هو رصد لماضي تسلسل الأحداث الجسيمة من حروب وسياسات وأفكار. بينما ثمة تواريخ أخرى متداخلة نصبو إليها لفهم الحاضر، منها معيشة الناس وغذاؤهم، فهي وإن كانت معايير أقل أهمية، ولكنها نافعة لاستيعاب تاريخنا المعاصر وتصور الأسس الاجتماعية للعديد من الظواهر الحضارية. يقول شبنجلر: «الإنسان البارع هو في الحقيقة كائن حي مشيد للمدن»، ونحن نعرف أنه كلما نما مجتمع ألحت عليه الحاجة للبحث عن زيادة موارده لسد رغبات وأفواه جديدة. إنها علاقة عضوية ديلاكتيكية بين نمو السكان واستقرارهم وبين نمو الخبرات والمعارف، ومن ثم اكتشاف مصادر جديدة. والاستيطان بالبلاد النجدية تراكم قبل بضعة قرون ونما بشكل مطرد قبل ثلاثة قرون نتيجة ظروف عديدة خصوصا البيئي والسياسي منها. فكيف كانت معيشة أجدادنا آنذاك؟ النوم المبكر ليلاً هو السمة الغالبة، والسهرات قليلة وأغلبها من الأغنياء أو التجار الأجانب كما يروي الرحالة داوتي. وبُعيد الصلاة فجراً، يبدأ برنامج العمل اليومي للسكان.. التاجر إلى متجره والصانع إلى محله والمزارع إلى السوق «الديرة» لبيع منتجاته أو إلى مزرعته والمرأة تساعد الرجل في عمله داخل المنزل أو في المزرعة وتخرج أحياناً لجمع الأعشاب والحطب. وذكر ابن مانع انه توجد نساء يعملن بالتجارة في سوق خاص بهن. ومع امتداد نفوذ الدولة يُعين المحتسبون للاشراف على أمور التبضع ومراقبة المكاييل والموازين ومنع الارتشاء والفساد، مع دورهم الأساسي في تطبيق الشعائر الدينية. وترتدي النساء النقاب، ولايخرجن في وضح النهار إلا لضرورة ملحة - حسب الرحالة لوريمر - وتصلي النساء في بيوتهن إلا في ليالي رمضان وصلاة العيدين، ويحضر بعضهن إلى صلاة الجمعة لسماع الخطبة. روى ضاري بن رشيد ان من ضمن استيراد أهل نجد بعض أصناف الطعام كالأرز والقهوة والشاي والسكر من الكويت والاحساء، ويصدرون المواشي خاصة الإبل لتحمُّلها طرق الصحراء إلى الشام ومصر. أما من ناحية الغذاء فيخبرنا ابن رشيد ان أساس طعام أهل نجد هو البر والتمر والأرز. ويُفصِّل داوتي في طعام أهل القصيم.. حيث الفطور يتكون من الخبز والبر والتمر والزبدة مع الحليب، والغداء والعشاء من البر والأرز مع اللحم.. كما تتوافر في موائد بعض الأغنياء قليل من الخضراوات. وتشتهر بعض الأنواع من الأطعمة مثل: الجريش، القرصان، المطازيز، المرقوق، الكليجا، العصيدة، الحنيني.. وذكر فلبي ان عادة الاسراف في الطعام منتشرة عند حلول الضيف بالنسبة للطبقات الميسورة. وربما يكون للتبذير في مجتمع فقير معنى اغتنام فرصة الرخاء قبيل هجوم الزائر العبوس «الجدب» فهو لايتأخر كثيراً. وقد يبدو التبذير كمظهر للتفوق على قسوة البيئة الشحيحة وتحدي تقلبات الزمن الصحراوي، أو حالة إغاثة الجوعى يتطلبها البقاء في الأرض اليباب.. في حين ان الطبقات الفقيرة يزيد بؤسها مع سنوات القحط، كما ذكر ابن بشر عن عام 1242ه «ان الأسعار غلت وقلَّت الأمطار ومات في سدير والقصيم خلق كثير من المساكين جوعاً..». أما مشروباتهم فهي مقتصرة على حليب الماشية.. وثمة القهوة العربية أعز مشروباتهم قاطبة، فحينما يعتدل المزاج فليس أرق من صبا نجد، وإذ يستريح المنهك يحتسي قهوة ويبث شجى مناخاته قصائد تُذيب الحجر! يشكل التمر بسكرياته واللبن بزبدته والبر ببروتينه وكربوهيدراته وأليافه مادة غذائية غنية. ومن مشاهدات الرحالة الغربيين يبدو ان الأهالي تتميز أجسامهم بالصحة والنشاط، إذ خلت المنطقة من الأوبئة. وقد لاحظ داوتي كثرة الشيوخ المعمرين في عنيزة، وكانت نجد تتعرض للأوبئة المعدية كالكوليرا والطاعون، ويتداوى السكان بالأعشاب ومركباتها وبالكي والحجامة والفصد، ويتم تجبير الكسور بالطريقة العربية التقليدية. ولنسأل الآن: هل تختلف مدينتنا كثيراً عن هذه الأنماط مع أخريات عُرضت في المقالات الأخيرة؟ لا أظن ذلك! نعم هناك اختلاف غذائي ونمط معيشي وصحي، ولكن المدينة ليست فقط أجهزة إدارية ومحاكم ومستشفيات ومدارس ومطاعم رغم أهميتها، بل هي أيضاً حالة عقلية ومنظومة من عادات وتقاليد ومن اتجاهات ومواقف ومشاعر تترابط بتلازم مع بعضها كما ذكر «ربورت بارك».. وبقاء أطعمة تقليدية يوميا على موائدنا رغم ان بعضها لاتنتمي لبيئتنا الزراعية مثل كبسة الرز التي كان لها حاجة لتوفير السعرات الحرارية، إنما هي الآن تستحث أجسامنا المتمدنة للترهل قد يشيء بعدم الرغبة بالتجديد والتغيير، قد ينبئ بصمود هوية مترهلة لمدينة لم تبلغ بعد وتبحث عن وجهها في المرايا.. والانفتاح الغذائي في المنزل قد يشير إلى الانفتاح الثقافي.. وهنا حلقة من حلقات التوازن نحو التحديث.. التحدي هو: هل يتم تجيير هذا الاختلاف التطوري عبر امتلاك وسائل الانتاج ومن ثم خلق أنماط علاقات انتاجية اجتماعية مدنية أم عبر الاقتصار باستيراد التكنولوجيا والأغذية؟ يقول أحمد زويل عن المجتمعات العربية: «يظنون التكنولوجيا هي شراء واقتناء.. وكأن دخول عصر الكمبيوتر يتم بمجرد الشراء».