يمثل هذا المشروع واحدا من أبرز المشاريع التي تطرح مفهوم العمارة المكتبية في العالم العربي في القرن العشرين، حيث قدم نموذجا فريدا لما يمكن للعمارة العالمية تقديمه اعتمادا على التفاعل مع العمارة (غير التقليدية) من حيث برنامجها الوظيفي وانها لم يسبق لها مثيل نمطي في العمارة العربية الاسلامية. حيث يمكن نسبة بعض انماط المباني للعمارة (العالمية) وانها ليست ذات جذور عميقة من حيث اصل نشأتها وفكرتها الوظيفية. بيد ان التصميم المقدم لمبنى بنك جدة يتميز بأنه محاولة جيدة (لأقلمة) هذا النمط من المباني واضفاء الصبغة المحلية على الناتج النهائي سواء من حيث الشكل أو من حيث الافكار الخلاقة التي تضمنها المشروع وظيفيا وفراغيا. يمتاز هذا المشروع الذي تم تصميمه وبناؤه بين الاعوام 1979- 1983م ويقع في الحي المنطقة القديمة من المدينة وضمن المنطقة التجارية كذلك بتقديمه فكرة التعامل مع الاشكال الهندسية النقية، حيث اعتمد المصمم الشكل المثلث النقي للتخطيط الافقي لمبنى البنك الرئيسي وهو شكل هندسي نادر المثال في العمارة العربية بمفهومها التقليدي. رغم ان هذا الشكل الهندسي يكثر استعماله في العمارة الغربية ومألوف للمصمم (سكدمور اونغ اند ميريل). ويبدو ان اختيار المصمم لهذا الشكل الهندسي النقي ذي الزوايا الداخلية المدببة والتي يصعب التعامل معها ما كان لينجح دون تحقيق دراسة واعية متكاملة لطبيعة المشروع وبرنامجه الوظيفي الذي يتيح ويفرض استخدام الفراغ المفتوح لتحقيق آلية تفاعل حديثة ومعاصرة لمبنى البنك بمفهومه المعاصر، حيث يمكن حجب أو دمج العلاقات المختلفة بين الموظفين بعضهم ببعض من ناحية وبين الادارة المشرفة من ناحية أخرى بواسطة الحواجز المؤقتة مما يتيح للمصمم الحرية في تصميم الفراغ العام للمبنى من الداخل وتحقيق انسيابية وانفتاحية محبذة رأسية واخرى أفقية بين الطوابق. ومن هنا يطرح المشروع بقوة فكرة الفناء الوسطي لا بمفهومها التقليدي انما كحيز فراغي رابط بين الطوابق جميعا من جهة، وكحيز فراغي منظم للواجهات الخارجية من جهة ثانية. مما اعطى المصمم مرونة وفكرة بارعة في معالجة الواجهات الثلاث الخارجية للبنك الذي كان من الممكن ان يشكل مظهرا مملا بصريا انما الحل الناتج كان بارعا بحيث يمكن فتح احدى الواجهات الثلاث كل على ارتفاع مختلف بالتتالي. وهذه الوسيلة فعالة للغاية في المشاريع الحضرية اذ تسهل وتمكن المارة من ادراك وتحديد الاتجاهات واستعمال المباني العالية كبؤرة بصرية سهلة الرؤية عن بعد والاستدلال من خلالها. ويعد المشروع كذلك ظاهرة في تقديم معالجة مناخية متميزة في مناخ حار والذي يتحول جافا احيانا ورطبا احيانا أخرى، ومليئا بالعواصف الرملية احيانا أخرى. وقد تم تصميم البنك باعتماد الشكل المثلث كما ذكر مع إضافة عناصر الخدمة والحركة بشكل مضاف ومستقل عن جسم البنك وملحقة بإحدى جوانب البنك الثلاثة. واقترح المصمم اصلا توجيه احدى زوايا المثلث باتجاه البحر، ومن أجل العمل على التخفيف من ضخامة وعلو المبنى فقد تم فتح الواجهات الضخمة من ارتفاعات مختلفة بحيث يبدو بالواجهة ظل ومجموعة من المكاتب الغاطسة داخل الظل والتي تقي الحر ووهج الشمس والرياح المحملة بالغبار وعوامل الطقس الخارجية فيما تبقى اجزاء الواجهة الاخرى المصمتة منعزلة في مواجهة المناخ الخارجي القاسي، وبالاضافة لذلك فقد تمت معالجة الشرفات والاسطح الداخلية لمجاميع المكاتب الغاطسة داخل الظل بزراعتها بالنخيل وكأنها واحات داخلية. وعدا عن المنظر والاجواء الداخلية المتميزة التي توفرها هذه الواحات المعلقة المزينة بالنخيل، فإنها تعمل على تحريك الهواء بين المناطق العاكسة الثلاث بين الواجهات الثلاث وتلطيف درجة الحرارة بين المبنى وذلك عملا بنظام فرق الضغط بين المناطق المظللة والمعرضة لاشعة الشمس. فيرتفع الهواء الساخن للاعلى ليحل محله تيار هوائي لطيف من الهواء البارد وهكذا، وهي بالضبط فكرة المعالجة المناخية في الفناء بمفهومها التقليدية في العمارة العربية الاسلامية. ولكنها هنا بدلا من كون الفناء أفقياً، فإن الفكرة الجديدة التي يطرحها المصمم Gordon Bunshaft من المكتب Skidmore, Owings and Merril هي فكرة الفناء الرأسي وليست بمفهومها التقليدي. وبذا يمثل البنك ظاهرة جديدة في تقديمه لنمط جديد من المباني المكتبية العالية التي تتعامل مع المفاهيم التقليدية بصورة معاصرة.