اتسعت دائرة الحوار في الأيام القليلة الماضية حول «عودة المعلمين المبكرة إلى مدارسهم» وأخذ الحوار وجهتين، إحداهما مؤيدة للعودة، والأخرى معارضه لها، ولكل وجهة نظر مبرراتها الخاصة.وورد ضمن تلك المشاركات مقالة للأستاذ راشد بن محمد الفوزان تحت عنوان: وزارة المعارف المعلمون والمعلمات.. والهدر الاقتصادي العدد 10897 في 20/5/1423ه التي تناولت عدداً من الرؤى والأفكار من زوايا مختلفة، واستنتج الكاتب الكريم بعملية حسابية اجتهد فيها شخصياً أن إجازات المعلمين الطويلة تعد هدراً اقتصادياً تتحمله ميزانية الدولة، وانتقد الوزارة لعدم استثمار هذا الوقت لتطوير أداء المعلم، وركز على أهمية تعلم الكمبيوتر واللغة وتنظيم دورات تربوية، بما يمثل استثماراً أمثل لإنفاق الدولة في حقل التعليم، الذي أصبح مقياساً لرقي الأمم وتطورها، وتوصل إلى قناعة شخصية تشير إلى أن «المعلم طاقة وجهد معطل وغير مستثمر، وتتحمل ذلك وزارة المعارف»، واقترح توفير فرص للمعلمين والمعلمات تفيدهم في فترة الصيف، والعمل على تطوير مهاراتهم وقدراتهم العلمية، كما أكد على أهمية شغل المدارس خلال إجازة الصيف بالأنشطة الرياضية والاجتماعية والثقافية لكلا الجنسين برسوم رمزية تناسب جميع أفراد الأسرة، حيث رأى أن المدرسة ليست صفوفاً للطلاب فقط، أو قاعات لإلقاء الدروس، بل لها دور اجتماعي كبير نفتقده حالياً، مشدداً على خطورة أوقات الفراغ على الناشئة خلال هذه المدة الطويلة من الإجازة التي تصل في فترة الصيف فقط إلى ثلاثة أشهر.وأمام هذا النقد الهادف فقد وجهت شكري للكاتب الكريم على رؤاه واجتهاداته، إذ عادة ما نطالب المجتمع ونحثه على الحوار والمشاركة بالرأي، ونقدر كل المهتمين الذين يحرصون على الطرح الفكري، بعيداً عن «الاستعجال» في التجريح بمنطق العواطف وإطالة اللسان فيمن نخالف.غير أنه لابد من الإشارة إلى أننا نتفق مع الأستاذ الفوزان في بعض ما أشار إليه، ونختلف معه في نقاط أخرى، وقد دار بيني وبينه حوار هاتفي طويل، ذكرت فيه أنه لا ينبغي أن نحمل المعلم والمعلمة مسؤولية الهدر الاقتصادي الذي يعتقد الكاتب الكريم بوجوده، فالظروف البيئية للمملكة، واتساع رقعتها الجغرافية، وكثرة المباني المستأجرة.. كلها عوامل تحد من الاستثمار الأمثل للمبنى المدرسي لخدمة المجتمع في الصيف، إضافة إلى الظروف الاجتماعية التي تشكل عائقاً كبيراً للتربويين.. والإجازة في نظر المجتمع فترة راحة وانفصال تام عن التعليم وما يوصل إليه، وهي نظرة تراكمية ترسخت بفعل التنشئة الاجتماعية، وقد تحتاج إلى وقت أطول لتصحيحها، على أن الوزارة تعمل بأقصى استطاعتها لإقامة المراكز الصيفية للطلاب في المدارس المؤهلة في كافة مناطق المملكة، وتقيم المخيمات والرحلات وغيرها من الأنشطة الرياضية والاجتماعية والكشفية كل عام. وكان مما قلته بشفافية مطلقة: أنني أعتقد شخصياً بأن الإجازة كافية، وتساءلت معه عن موقف الطلاب من معلميهم الذين يحلمون بتمديد فترة الإجازة.. كيف سيقدرون الوقت وهم يقرؤون المطالبة بإجازة أطول؟! مع أني أعتقد جازماً بأنه لم يطالب بتمديد فترة الإجازة إلا قلة من الزملاء المعلمين، وربما لظروف شخصية أو اجتماعية خارجة عن إرادتهم. أما الكادر الوظيفي للمعلمين فهو حق لهم، ولا يمكن أن تُهضم حقوقهم، أو يُنتقص من جهودهم، أو يُقلل من شأن رسالتهم، وما يعانونه من صعاب وما يبذلونه من جهد لا يقدر بثمن، وما يقدمونه للوطن وأبنائه أغلى من الذهب، فهم مؤتمنون على أغلى وأنفس ما تملكه الأمة «الأبناء والبنات فلذات الأكباد»، وانظروا كم يعاني الحريصون من أولياء الأمور لمتابعة تحصيل الأبناء ورعاية سلوكياتهم في ساعات قليلة بعد العودة من المدرسة، فكيف بمن يقف الساعات الطوال يتعامل مع شرائح مختلفة من الطلبة وسلوكيات طارئة لم نألفها في سنوات مضت.. وأمور كثيرة أخرى تدركها الوزارة، وتجلها للمعلمين.وفي الوقت نفسه فإنه ليس من العدل مساواة المعلم الذي يعمل بإخلاص وتفان وانضباط بغيره، وإن كنت أجزم أن «الأغلبية الصامتة» هم من المخلصين الطامحين إلى مستقبل أفضل، وقد وقف المسؤولون في الوزارة بأنفسهم على إبداعات ومواقف لمعلمين لا يعلم عن جهودهم أحد، أبدعوا في طرائق التدريس، وتمكنوا من تخصصاتهم، وامتدت أياديهم البيضاء إلى رعاية طلابهم «خارج أوقات الدوام المدرسي» وقبل بدء الحصة الأولى من اليوم الدراسي، يعطون دروساً مجانية، ويقدمون لهم التوجيه والنصح والإرشاد، ويساهمون في خدمة المجتمع، وإفادة غيرهم بعلمهم.. ومن الشواهد الحية مشاركة أكثر من 3000 معلم «متطوع» في حملات التوعية التي نفذتها الوزارة صيف العام الحالي.وأمام رغبات المعلمين المتميزين «وهم الأغلبية» الذين يطمحون إلى تطوير قدراتهم، وإمكاناتهم، بالإضافة إلى حرص الوزارة الشديد على الرفع من مستويات المعلمين عامة، خدمة لهم أولاً، وحفاظاً على مكانتهم في المجتمع، التي لا نريد لها أن تهتز أمام المواقف التي تستدعي التعامل معها بمهارة، وأمام الثورة العلمية والمعرفية وتعدد مصادر التثقيف التي أصبحت تنافس المعلم في التأثير على أبنائه، وربما تغيير أو تغييب اتجاهاتهم الفكرية.. أمام ذلك كله أصبح لزاماً على الوزارة أن توفر للمعلم كل السبل الممكنة لإعانته على أداء رسالته، ومن ذلك الدورات التدريبية في المجالات التي تحتاجها روح العصر الحديث، ولم تجد الوزارة أفضل من استثمار الأوقات المهدرة التي أشار إليها الكاتب الكريم، لأن أيام الدراسة حق للطالب والطالبة، وهذا بالإضافة إلى كونه محفزاً للطلاب للاقتداء بمعلميهم للمحافظة على الوقت سيولد في نفوس المعلمين الثقة بقدراتهم، ويوسع مداركهم، وخصوصا المعلمين الجدد، والمعلمين الذين بدأوا عملاً قيادياً جديداً، كالمدير الجديد.. والمشرف الجديد. ليبدأ العام الدراسي بكل جدية ونشاط منذ الدقيقة الأولى فيه، وقد أتاحت الوزارة للمعلمين حرية اختيار الدورات التي يرغبونها، ووفرت لهم المراكز التدريبية، والبرامج المختلفة.. بل ان من المعلمين من يبادر إلى الاستفادة من دورات أخرى خارج المراكز، وفي أوقات إجازاتهم قبل مدة العودة وهي مبادرات مخلصة من أناس أمناء وصادقين.ولحث المعلمين على الالتحاق بهذه الدورات فإن الوزارة تقدم لهم مزايا تشجيعية مادية ومعنوية ومن ذلك: إمكانية تجميع ساعات وأسابيع التدريب للحصول على علاوة، واحتساب نقاط التدريب في مفاضلات الترشيح للأعمال القيادية، وأفضلية النقل، وأحقية التقدم للحصول على مؤهل دراسي أعلى.. وبالمقابل فإن من الرشد تكريم الطامحين والمتميزين من المعلمين والمعلمات كافة، لذلك فستطبق الوزارة اعتباراً من العام الدراسي القادم مشروع «اختبارات الكفايات الأساسية للعاملين في التعليم» والذي يهدف إلى تحديد الكفايات المطلوب توفرها في المعلمين والمشرفين ومرشدي الطلاب ومديري المدارس، وبالتالي بناء أداة موضوعية مقننة لقياس مدى توفرها، تمهيداً لتقويم مستوياتهم المهنية.ولو عدنا إلى التوضيح الذي كتبته في هذه الصحيفة العدد 10886 تعقيباً على مقالة الأستاذ عبدالكريم الوديعة المعلم بمدرسة المثنى بن حارثة بالجوف، لما وجدنا فيه ما يسيء إلى فضل المعلم.. بل على العكس تماماً فقد أكدت فيه أن الوزارة أعدت آلاف البرامج التدريبية خدمة للمعلمين، ودعوتهم للالتحاق بها، وذكرت عوائدها المادية والمعنوية، وأشرت إلى حقيقة أن أيام الدراسة «الفعلية» خلال العام الدراسي القادم هي «185 يوماً» فقط، وأعني بها الأيام التي يقابل فيها المعلم تلاميذه في الفصل للدرس والتحصيل.. وسوف تدفع فاتورة تمديد الإجازة من هذه المدة القصيرة المخصصة لتربية الأبناء وتعليمهم التي تبعث على الحزن والألم.. وهي حقيقة تؤكدها حسابات اللجنة العليا لسياسة التعليم في المملكة التي أقرت التقويم الدراسي، إلا أن عنوان التوضيح الذي لم أتدخل في صياغته أشار إلى أن (المعلم «لا يداوم إلا «185» يوماً فقط وباقي السنة إجازة !) مما أثار بعض الزملاء المعلمين الذين دخلوا في حسابات رياضية لإثبات عدد أيام الدراسة وأيام الإجازات، ولم أقرأ إلا المطالبة بتمديد الإجازة، في الوقت الذي سبقنا فيه العالم بإبداعاته واختراعاته وتفوقه في مجالات كنا روادها، وانتظرت كل يوم بلهفة لعلني أقرأ من يكتب من المعلمين وغيرهم، لتصحيح نظرة الآخرين إلى البلاد العربية والإسلامية بأن نفس أهلها قصير، لأنهم يأكلون بسرعة، ويتكلمون بسرعة، ويعملون بسرعة، ويقرؤون بسرعة، ويقررون بسرعة، ويصنفون بسرعة..إنني هنا أذكّر مجتمعنا الكريم أن سر تقدم المجتمعات يكمن في مدى قدرتها على استثمار ثروتها البشرية التي هي أغلى الثروات وأنفسها و «أكثرها ربحية» بوصف الأجيال الصاعدة هي التي ستتحكم بقدرات الأمة ومستقبلها، وإذا ما أحسنت أمة ما استثمار هذه الثروة، وعملت على توجيهها الوجهة السليمة، أمكن لها الوصول إلى الصدارة في عالم أصبح يتحرك بأطراف الأصابع في ظل ثورة علمية وتكنولوجية تعطي الدول الأمل في السيادة. و«المعلم» مصدر قوة لأي أمة، إذ يمكن أن يحرك «بالقدوة» كوامن النفس البشرية: روحياً، وعقلياً، وجسدياً.. لتعطي بأقصى طاقاتها الكامنة لتحقيق الأهداف والآمال التي ترجوها الأمم من هذه الثروة غالية الثمن، والتي تعمل علي تعليمها وتربيتها والحفاظ عليها وتوجيهها الوجهة السليمة، حتى يمكن مواكبة الوتيرة السريعة لمتغيرات العصر المذهلة، وذلك بإيجاد تفاعل واع مع التطورات التقنية والمعرفية، والاستفادة من تجارب الآخرين، وربط العلم بالحياة العامة، وتنمية التفكير الناقد، ودعم الاتجاهات والقيم اللازمة للعمل المنتج. المعلمون قادة المجتمع، والآمال المرجوة منهم تسير متساوقة مع مكانتهم الريادية، وفضلهم لا ينكره إلا جاهل، وهم أمام تلك المكانة محاسبون أمام الله ثم مجتمعهم عن الأمانة التي بين أيديهم، فكيف نغرس القدوة بمن يستحب الكسل! وكيف نغرس قيمة الاستعداد بمن به ضعف! والمعلم القدوة مقدمة الطالب المنضبط، وعلى الوجه الآخر فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن مثل الطالب المقتدي بمعلمه، مثل الظل من العود يستقيم متى استقام. نظر هارون الرشيد إلى جموع الحجيج من شرفة بمكة، فأعجبه كثرة الطائفين، فقال له أحد رفقائه: أرأيت كثرة الناس فأعجبتك؟! فإن كل من ترى يحاسب عن نفسه، وتبعث أنت فتُحاسب عن نفسك وعن هؤلاء جميعاً.. فغُشي على الرشيد «هارون» رحمه الله، وبمثل هذا الاستشعار الفذ كانت القيادة على النفوس الحكيمة ثقيلة، ومرارة التكليف تعكر حلاوة التشريف، وهذا ما يجب أن يكون لأن الفضائل لا تُرجى إلا ممن كان الإخلاص لهم راية والقيادة وسيلة لا غاية. شكراً مرة أخرى لكل من أسهم في إثراء هذا الموضوع، وعلى الأخص الزميل العزيز الأستاذ راشد الفوزان، والأساتذة المعلمين والمعلمات: عبدالعزيز السلامة هزاع الجهني منيرة البهلال عبدالمحسن المحيسن سيف القحطاني عبدالكريم الوديعة يحيى الغفيلي ناصر المسعد.وأدعو زملائي المعلمين إلى مزيد من إمعان الفكر فيما نكتب، والتواصل الحقيقي المبني على النقد الهادف، والمشاركة بالاقتراحات والرؤى العلمية، وألا يحمّلوا هذا الحوار وغيره وزر القاعدة المظلمة «مع أوضد».. وأعدكم بجمع كل ما ينشر في الشأن التربوي، لتقديمه إلى اللجنة المكلفة بمتابعة الندوة التي ستقيمها وزارة المعارف في شهر ذي القعدة القادم تحت عنوان «ماذا يريد المجتمع من التربويين وماذا يريد التربويون من المجتمع؟» وهي ندوة كبرى سيشارك فيها قيادات تربوية، وفكرية، ومسؤولون من جهات عدة، للبحث في سبل دعم العلاقة بين التربويين والمجتمع.