«جلس «بسام» بجانب النافذة يوزع نظراته على المكان كله، وخاصة على المطابع ولفات الأوراق، متمنياً في قرارة نفسه لو أنه يحصل على لفة واحدة تكفيه بقية عمره ليكتب مذكراته الطويلة». «الرواية، ص10» تهيمن ذاكرة الورق/ الإعلام الصحفي على رواية«اللفة» باكورة السرد عند د. سليمان الشمري، فاللفة هي لفة ورق كبيرة وهبت من الصحيفة لبطل الرواية «بسام» فشكل من خلالها وعي ذاكرة الإعلام لدى الناس والعلاقات بين شخوص أنتجهم الشمري من الزمن الآني أو الزمن الراهن المسكون بأزمة ثقافية عربية محورية، تمثلت في اغتراب الوضع العربي المعاصر وتمزقه بالعلاقات الثقافية غير الطبيعية على أية حال من الأحوال، وفي هذا السياق جاء حلم أبطال الرواية المثقفين عموماً عميقاً وهو يبحث عن أسطورة المدينة الثقافية، أو المدينة الثقافية الطوباوية التي لا يمكن أن نجدها في الواقع مهما كانت ظروف تخيلها الواقعية، لأنها مدينة بدت في كل العصور عصية على التحقق، لذلك يصعب وجودها بين أشواك المكان العربي، وأدرانه الثقافية الهشة، التي تجعل حياة المثقف الجاد، مليئة بانتكاسات الخيبة والآمال الكثيرة المنتحرة أنى سارت خطاه رغم التفاؤل أحياناً بمستقبل أكثر إشراقاً، ثم لابد أن تقع النهاية المأساوية الرامزة، حيث يعيش أبطال الرواية سياقاً درامياً تراجيدياً، يتأمل مأساة: أن المدينة الفاضلة أو أفكار المدن الفاضلة ليست أكثر من ضرب من الخيال الأسطوري. تبدو المدينة الفاضلة التي رسمها أبطال الرواية، وخاصة على مستوى تنظيرات الدكتور فليحان، أنها لا تخرج عن سياق تحسين الواقع العربي الراهن، مع بعض التغييرات الطوباوية التي تجعلها مدينة أفلاطونية سويسرية ثقافية ديمقراطية على النحو التالي: «يريد «د. فليحان» وبكل برود أن تتنازل ثلاث أو أربع دول عربية عن قطعة أرض تصلح لإقامة دولة صغيرة تصبح عاصمة للدول العربية، تتشكل خيوطها وموادها وبشرها من شتى الأجناس العربية، من جميع فئات المجتمع، صغيرها وكبيرها، أبيضها وأسودها، غنيها وفقيرها، مؤمنها وعلمانيها. ووضع تصورات كثيرة أهمها أن يكون هناك نظام ديمقراطي يسوده العدل والمساواة بين كل أعراق المجتمع حديث التكوين، وأن تكون هناك جامعة واحدة لتدريس الطب يمكن لزوار هذه المدينة الاستشفاء فيها، وتكون زيارة السياح العرب سياحة وعلاجاً واطلاعاً على خطط قادمة لتحسين الوضع العربي يشارك في وضع الخطط جهابذة الفكر والثقافة العرب «ص63 64». إن هذه الدعوة على ما يبدو دعوة تفاؤلية سليمة متواضعة، قياساً إلى ما عمله فرح أنطون الكاتب اللبناني المشهور، وصاحب مجلة الجامعة والكثير من الروايات، قبل أكثر من مئة عام، وذلك عندما أحرق ثلاث مدن عربية استمدت دساتيرها من العلم والمال والدين كلا على حدة، وأقام مكانها مدينة جديدة، «على طريقة العنقاء الجديدة التي تولد من رماد العنقاء القديمة»، فاضلة، تأخذ بانفتاح وتساهل من كل ما حرق ما يفيدها، وبكل تأكيد يضعنا الشمري من خلال التنظير لمدينته هذه أمام إشكالية أحلام اليقظة، وهي الأحلام التي تجعل أي قارئ عربي يقرأ هذه الرواية ويتعرف هذه المدينة الفاضلة أن يحمل نفسه ويسافر إليها، لأنها حلم الوحدة العربية فهل بإمكان هذه المدينة أن تتسع ثلاثة ملايين عربي!! من هنا نرى أن هذا الحلم هو حلم أبرز عناصر الثقافة العربية المتشوقة إلى بناء الوطن العربي ذي القلب الكبير الذي تتحقق فيه ملامح «العدل والخير والجمال»، الساكنة في وجع الشمري وآماله. *** تمثل ذاكرة الورق التي هي ذاكرة الرواية من ناحية جوهرية علاقة المثقف بكل من «وما» حوله، بل نجد هذه الذاكرة ذاكرة ثقافية شعبية في صميمها، لأنها تحتضن الورق في عمق حضن الحارة العربية، ليتاح المجال أمام الناس كلهم كي يدلوا بدلائهم، مدونين أفكارهم وحكاياتهم وتواقيعهم على اللفة أو على دفاتر خاصة تصنع من اللفة باستخدام سكين كبيرة لتقطيعها، وبالتالي من حق أي إنسان بما أوتي من ثقافة أو وعي أن يسجل نزيف وجدانه وأفكاره المتدفقة الواعية وغير الواعية، ولا تمييز هنا بين عامل النفايات وأستاذ الجامعة، أو بين من يقرأ ولا يقرأ.. من هذه الفكرة الجوهرية ينشأ حلم «بسام» بطل الرواية والآخرين، والمهم من وجهة نظره أن تكون لفة الورق الكبيرة محور الرواية بين أيدي الناس كي يقولوا بحرية كاملة ما يريدون دون أية ضغوطات تمارس ضدهم، وتحت أية ظروف يرتضونها.. في ضوء هذه الذاكرة الورقية، أيضاً، تشكلت البنية السردية التي تحمل هموم أبطالها في العمل، والفكر، والحياة الأسرية، فتشكلت مجموعة من الحكايات فيما اصطلح نقدياً على تسميته «الحكاية الإطارية»، المصطلح المستمد من شكل الكتابة العربية السردية التراثية، ونعني بها تداخل الحكايات بعضها مع بعض على طريقة ألف ليلة وليلة، ولكن بأسلوب تجريبي عند الشمري، وبأسلوب حكائي واضح في «ألف ليلة وليلة».. إن الفكرة العامة التي أنجزت في الرواية تشعرك كمتلقٍ أن القاص يتخذ العناصر القصصية في عمومياتها «اللغة، والفكرة، والشخصية، والزمان، والمكان والحدث، والصراع، والحبكة، والحل، وطرق العرض..» وسائل تخدم رؤية ثقافية كلية سيطرت عليه، بوصفه إعلامياً، فأنشد في كتابة روايته رباط ذاكرة ورقية ثقافية إعلامية طوباوية مقننة، لا تخلو من ملامح السيرة الثقافية الذاتية، وهي بهذا تتحول تلقائياً في زمن «العولمة الثقافية» إلى سيرة جماعية للإنسان العربي في عالمه الصغير الواضح الكآبة بسبب ما فيه من تكنولوجيا حديثة فتحت النوافذ بعضها على بعض لتشعره بالغربة والضياع، فتسهلت لديه طرق طرح القضية العربية، وخاصة القضية الفلسطينية بوصفها جوهر التأزم في الحياة العربية المعاصرة في مواجهة الذات والآخرين معاً. ولم يأل الشمري جهداً في العمل على تحسين روايته، من النواحي اللغوية والسردية، ومع ذلك بقيت هذه الرواية، بوصفها التجربة السردية الأولى، تحتاج إلى جمالية السلاسة السردية الأدبية الداخلية المثيرة، التي تتيح المجال أمام القارئ كي يقرأ قصة سهلة ممتعة، لا أن يشعر في أحيان عديدة أنه أمام سرد تقريري سيري يقطع النفس في المتابعة المتواصلة دون وقفات حوارية أو فلاشية، أو وصفية «نستثني من السرد الوقفات الشعرية»، فالكتابة عند الشمري مشدودة إلى العبارة الإعلامية، التي ترهق ظهر البنية السردية الجمالية التي غيبت الصورة الفنية، وبالتالي أرهقت القارئ الذي يقرأ رواية على وتيرة واحدة، لأنها تتكئ على أسلوب المقالة الإعلامية أو الكتابة الصحفية الوسطى المليئة بالمفارقة والسخرية المبطنة. إلا أننا نعترف على وجه العموم أن الفكرة السردية ليست ثوب الحركة الواعية التلقائية من بداية الرواية إلى نهايتها، من البداية التي تمثل الحلم عند بسام الذي يعاني حالة الصرع، تأتيه بين فينة وأخرى في امتلاك لفة الورق لتكون واجهة للكتابة الحرة، وانتهاء باحتراق هذه اللفة الحلم المنتحر، وانتحار بسام أو موته. لقد جاءت نهاية الرواية نهاية فاجعة، إذ يسرق بعض الشباب المخدرين العابثين العاطلين تلك اللفة الضخمة، فجروها إلى جحيم الاحتراق، لذلك لم يبق أمام بسام إلا أن يرثيها بلغة شعرية تكشف عن نهايته الوشيكة بعد أن أحرقت لفته الثقافية. فضاعت ذاكرته: لم يسمعوا صراخك وأنت تحترقين، في أوروبا كان لك جولة، وفي مدينتي كان لك دولة، حروفنا التي كتبناها على ظهرك صعدت إلى السماء مع روحك العظيمة، سرقوا تاريخي الذي تشكل من جسدك وأحرقوه: كأنهم يحرقون سيجارة حشيش «ص110». ولأن ذاكرته الورقية ضاعت، فإنه يموت عندما يسقط في بئر الماء، ربما بسبب ضعف نظره، أو ربما بسبب حاجة ملحة إلى الموت إثر موت اللفة التي تركت لديه حالة يأس شديدة، وخوفاً من المستقبل، فهي الشيء الوحيد الذي جمع بينه وبين الآخرين، لذلك توقع أن يحل التفكك والخراب بسبب غيابها. إذا عددنا ذاكرة الورق ذاكرة إيجابية في تعبيرها عن حياة الناس، وفي تجاوزها للقيود الثقافية الرقابية، فإنها من ناحية أخرى قد توصف بطريقة أو بأخرى بأنها ذاكرة سلبية عندما تغدو غايتها أن تدور في بعض مدن العالم من أجل أن تلم التواقيع المؤيدة للقضية العربية، محددة لنفسها من خلال هذا العمل الفرق بين الأصدقاء والأعداء، لأن مثل هذه الحالة التوقيعية تدل في السخرية العميقة على أنها لا تقدم حلاً جذرياً، لأنها طريقة طوباوية فاشلة في التعامل مع القضايا المصيرية التي تحتاج إلى أكثر من الحلم والاستنكار والتعاطف، وهذا ما أراده الكاتب على وجه العموم من وراء خروج اللفة إلى الخارج، لأنه يؤمن بها عندما تكون بين ناظريه في الحارة العربية، حيث تكمن ذاكرته الثقافية الحقيقية!! هذا عن مفهوم الذاكرة التي تجعل الفكرة الإعلامية الثقافية هي الأساس في هذه الرواية المباشرة في دلالاتها الباحثة عن عالم أفضل، ويقابلها إلى حد ما وسطية في الجماليات السردية الإبداعية على وجه العموم، لأن كتابة الشمري كما ذكر تنتمي إلى السردية الخبرية الصحفية الإعلامية، وأيضاً إلى النمط الذي نجده عند كثير من الإعلاميين الذين يتحولون إلى روائيين، ومن هؤلاء تركي الحمد الذي قرأت روايته الأولى العامة، فلم أجد إمكانية للكتابة عنها، لأنها بدت كتابة سردية سيرية عادية!! لم أقصد من وراء هذه المقاربة ان أدخل إلى تفصيلات الرواية الكثيرة، وعلاقاتها المتشابكة، وشخصياتها المتعددة، وزمكانيتها المتنوعة، لأن هذا الموضوع يحتاج إلى قراءة أخرى، لكن القصد هو تعرف الذاكرة المحورية في هذه الرواية انتماء إلى مقارباتي السابقة للرواية التسعينية «1993 2003» في ضوء منظور الذاكرة التي يفعلها الروائي في روايته، ولا تعني هذه الرواية قراءة الرواية على مستوى الرؤى والجماليات، لأن هذه القراءة الأخيرة تحتاج إلى أكثر من أربع صفحات تلائم زاوية في ثقافة الجزيرة الزاهرة.