يُفجَع الناس في (صداقة) هذه الأيام أكثر من فجيعتهم في أي نوع آخر من العلاقات، فالصداقة في معناها الصحيح البحر الذي تصبُّ فيه كل أنهار العلاقات الإنسانية الأخرى، ذلك لان الصديق هو ذلك الذي نأتمنه على أغلى ما لدينا، ونضع بين يديه مكنونات أنفسنا، ونبوح له بما لا نبوح به لأقرب الناس الينا كالزوج أو الزوجة والأب والأم والأخ والأخت، والصديق هو ذلك الذي ينطبق عليه جواب الشاعر عندما سُئل عن نوع الأخوة التي تربطه بالصديق فقال: فقلت أخي، قالوا أخٌ من قرابةٍ؟ فقلت لهم: إن الشكول أقاربُ نسيبي في رأيي وعزمي وهمَّتي وإن فرَّقتنا في الأصول المناسبُ وقد وقفت طويلاً أمام قول بالغ لاحد السلف في تعريف الصديق يقول فيه :«الصديق إنسان هو أنت إلا انه غيرُك» وتلفَّت حولي أبحث عن هذا النوع من الاصدقاء بين الناس فلا اجده.. لم أجده الا في إنسان صدر الاسلام، في سلوك هؤلاء الرجال الذين نزل فيهم القرآن، فقد أقطع خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابو بكر الصديق طلحة ابن عبيدالله أرضاً، وكتب له بها كتاباً، وأشهد فيه ناساً منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ثم كان أن أتى طلحة بكتابه لعمر ليختمه فرفض عمر فرجع طلحة الى أبي بكر غاضباً فقال له أبو بكر الصديق: بل عمر، لكنه أنا!! لهذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء» وروى ابو الزبير عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «المرء كثير بأخيه، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له» وقال أحد السلف :«صديق مساعد عضد وساعد» وشكا أحد الشعراء حاجته للصديق فقال: هموم رجال في أمور كثيرة وهي من الدنيا صديق مساعدُ نكون كروح بين جسمين قُسِّمت فجسماهما جسمان والروح واحدُ ويسمَّى الصديق اذا بلغ أعلى مراتب الاخلاص خلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الإخاء وصنع الاسلام اعظم اخوة في تاريخ البشرية بعيداً عن روابط الدم والنسب، حين آخى بين المهاجرين والانصار فاقتسم الانصار مع اخوانهم المهاجرين كل ما يملكون طواعية وبرضا وعن طيب خاطر، فكان هذا النوع من الإيثار قمَّة «الصَّداقة» المبرَّأة من اغراض الدنيا، اطلق عليها الاسلام مصطلح «المحبة في الله». وقد رفع المسلمون الأوائل من قدر «الصداقة» «والمنادمة»، وجعلوا متعتها أبقى وافضل من كل المتع الحسية التي يتهالك عليها الناس، فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول : نكحت النساء حتى ما أفرِّق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما ستمرؤه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبست الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق اليه نفسي الا محادثة أخٍ كريم ، وبالاسلوب نفسه استعرض سليمان بن عبدالملك لذَّات الدنيا ثم قال: «فلم يبق من لذاتي الا صديق أطرح معه مؤنة التحفظ». وللعرب حِكَمٌ وأقوال في وصف الصديق ومدى الحاجة إليه تزخر بها كتب التراث، قيل لخالد بن صفوان : أي الناس أحبُّ اليك؟ قال : الصديق الذي يسد خلتي، ويفغر زلتي، ويقيل عثرتي، وما أروع هذه الابيات التي تردِّد النَّفْس العطشى للصداقة الحقة صداها.. يقول أبو تمام : من لي بانسان إذا أغضبته وجهلتُ كان الحلم رد جوابه؟ وإذا صبوت الى المدام شربتُ من أخلاقه وسكرتُ من آدابه وتراه يصغي للحديث بطرفه وبقلبه، ولعله أدرى به! وما ذكر المدام والسُّكر في الأبيات الا من باب المجاز، والاغراق في وصف المتعة المعنوية التي تحققها الصداقة. فالصديق كما يراه أبو تمام هو ذلك الذي يحتمل غضبك وتستوعبك أخلاقه، ويعرف ما بخاطرك قبل أن تبوح به! واليوم لا تجد الصديق الذي يفتقدك اذا غبت، ويسأل عنك اذا انقطعت الافيما ندر، فصداقات الناس هذه الايام تربطها المصالح المادية المؤقتة، وبعض الناس لا تسأل عنك إلا اذا دعتهم حاجتهم اليك، فإذا انقضى وطرهم كنتَ وكأنك لم تكن. وليس عيباً ولا حراماً ان يتبادل الناس المنافع وأن يحسن بعضهم إلى بعض، ويحنو القوي على الضَّعيف لوجه الله وطمعاً في الاجر والثواب عند الله وحده لا عند فلان أو علان من الوجهاء والكبراء. والافضل للمسلم أن يُحسن إلى الناس سواء شكروه وعرفوا له فضله أو لم يعرفوا، فالفضل مرجعه إلى الله تعالى من قبل ومن بعد. لكن تظل شكوى اهل هذا الزمان من غياب الصديق الذي تنطبق عليه الصفات التي أجملنا، وتنتهي عنده كافة اللذات الحسية، ولا تبقى إلا متعة صداقته، وقد جأر بهذه الشكوى في زمان قبلنا شاعر حين قال: وما بَقيتْ من اللَّذات إلا محادثة الرجال ذوي العقولِ وقد كنَّا نعدُّهم قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليلِ