لعدة أعوام مضت كنت أحس بحنين حارق رقراق كلما اقترب موسم الحج لان اكون من بين تلك الجموع المحظوظة الملبية على صعيد عرفات الطاهر سوى ان الإرادة لله والحج يسر الله سبله بالاستطاعة. كانت ابتهالات التلبية من فجر يوم التروية بمنى إلى غسق جمع الجمرات بمزدلفة وتهاليل التكبير والتسبيح من فجر اليوم الاول لعيد الأضحى الى ما قبل غروب اليوم الثالث تشعل في داخلي مشاعر شفيفة دفينة ليس لها اسم آخر غير «شجن الحج» ذلك الشجن المعنف في أعماق كل مسلم منذ ان اذن سيدنا ابراهيم عليه السلام في الناس بالحج الى اليوم الذي توج فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الحجة الاولى بعد فتح مكة بخطبة الوداع ومنذ ذلك اليوم المجيد الى يومنا هذا ومنه الى يوم البعث. فأي شجن غير «شجن الحج» ذلك الذي يستطيع ان يؤجج التوق للانعتاق من ضيق الرغائب الى افق المغفرة والى التحرر من الانكسارات البشرية بالتكريم الالهي للانسان حيث ليس له إلا ما سعى. اي شجن لا يستيقظ في الوجدان ويخلب الخيال من مجرد التفكر في هذه المفردات الشعرية الآسرة لشعائر الحج وابعادها المتعددة لإنتاج واقع جديد لحياة المسلم. النية، الإحرام «التجرد من الزينة»، طواف القدوم، الوقوف تحت استار الكعبة المشرفة، تقبيل الحجر الاسود، لمس الركن اليماني، الاغتراف من حياض زمزم كما فعلت هاجر اول مرة وابتلال صمامات القلب بمائه العذب، الإجهاش بالدعاء والانقطاع التعبوي عن الجموع وسط اكبر تجمع بشري على جبل عرفة، المسيرة الى مزدلفة والمبيت في العراء على ارضها، العودة الى منى في صباح التشريق والذوبان، في الجموع المتجهة الى المرجم، التقصير، التحلل من الاحرام، الاضاحي، طواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة، تسارع ساعات الايام المتبقية من الحج ولياليها كبروق خاطفة في سنوات العمر ثم طواف الوداع. في كل مفردة من مفردات هذه الشعائر طاقات شعرية وروحية لم يفجرها الشعر بعد ووحدهم الحجاج يعرفون رحيق مشتقاتها وحلاوة الصبر عليها. كان ذهابنا الى الحج من اعز كنوز الذاكرة التي لم أسمح للزمن بأن يجردني من كهرمانها وزمردها وياقوتها وجميع جواهرها الاخرى التي من ندرتها ليس بالامكان إيجاد اسم لها مما يعرف من اسماء الحجارة الكريمة، فلما من الله علي وعلى اسرتي بالعودة الى الحج هذا العام فوجئت بمدى تجدد وتوهج كنوز الذاكرة المرتبطة بهذه المناسبة ال ظيمة. ان بهجة المهج وزهو الهامات بالرجوع الى ارض معاد فوق احتمال الجسد النحيل لولا ان الله يمد الروح لاستيعاب مالا يسعنا من فرح وان الوداع لتلك المشاعر المقدسة لأقسى من ان تسقيه دموع العيون لولا ان الله يربط على القلوب بأمل العودة. ü ü ü هذاولي عودة الى موضوع الحج لطرح بعض الوقفات النقدية على ما تخلل موسم هذا الحج من قصور بالإضافة الى طرح ما جاء في خدماته من ايجابيات باعتباري شاهدة عيان.