«أحاول منذ الطفولة رسم بلاد.. تُسمى مجازا بلاد العرب.. رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم.. ولكنني ما رأيت العرب» -نزار قباني- تعود نشأة العرب إلى مجموع من القبائل والسلالات أي أن فكرة «وحدة الهوية» أو ما نسميها ثقافيا «بالقومية» ليست فكرة أصيلة تميز بها العرب قبل الإسلام رغم وجود مشتركات جذورية بين قبائل وبدو ومماليك العرب من حيث اللغة والعادات والسلوكات، والحج والأسواق الأدبية إلا هذه المشتركات لم تستطع أن تجمعهم على مائدة الثقافة القومية، أو تؤسس مشروعا فكريا للقومية يؤلف بينهم ولعل غياب هذا المشروع يعود إلى عدة أسباب منها: انتشار الثأر بين القبائل والتحالفات الثنائية التي تتعارض مع مصلحة التحالفات الأخرى، التعصب العرقي والطبقي الذي كان شائعا بين العرب. والسبب الأهم كما أعتقد هو «غياب الخطر الحقيقي المهدِد لوجودهم» لبعد مناطق العرب عن منافسات الامبراطوريات في ذلك الوقت وطبيعة العربي التي تميل إلى السلم مع القوى الكبرى وتجرده من نزعة التوسع والاستعمار. كما أن فكرة القومية كمشروع فكري وسياسي غالبا ما ترتبط بالأنظمة السياسية ووحدة المواطنة وهما أمران افتقدهما العرب. ولذا تظل «القومية العربية» كمشروع سياسي وثقافي هي فكرة حديثة من هندسة وصناعة بريطانيا لفصل العرب عن الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر واستغلالهم لتدمير العثمانيين وإعادة توزيع المناطق التي كانت تستعمرها الدولة العثمانية والأهم هو فصل الربط بين الهويتين العربية الإسلامية والتحول من «الأممية» إلى «القومية» لتفكيك وحدة قوة المسلمين، وليس مشروعا عربيا أصيلا فقد استطاع العثمانيون تهميش النخب السياسية وهو تهميش أفقدهم القدرة على تأسيس مشروع سياسي وثقافي يجمع العرب ويحررهم من الخلافة العثمانية. وبذلك بدأت جذور فكرة القومية العربية تتشكل سياسيا ثم ثقافيا ثم شعبيا كمعادِل لوحدة المصير وبديل ضمني عن أحادية الدين، ولذلك «نُحي الدين» في تأسيس جذور القومية العربية لأن النخب الدينية كانت سترفض الانقلاب على الخلافة العثمانية التي تمثل في معتقدهم رمزية الخلافة الإسلامية ولذلك يعتبرها الكثير من الأصوليين أنها مؤامرة لسلخ العرب عن هويتهم الدينية للانقلاب على الخلافة الإسلامية وكنتيجة لتلك التنحية ظهرت الحركات الدينية المتطرفة. كان العرب يعيشون في ظل الخلافة العثمانية مواطنين من الدرجة الثانية سياسيا وثقافيا واقتصاديا وكان مشروع «تتريك العرب» لتغييب هويتهم الأصلية الشرارة التي أشعلت غضب العرب وقادت الانقلاب على الدولة العثمانية. وتدريجيا بدأت أدبيات القومية تتوغل في الذهن العربي خاصة عندما ارتبطت بمشروع السيادة والقطرية لينتقل العربي من كونه مواطنا أمميا إلى مواطن قطري يعيش بين اتفاقيات الحدود والعملات وبدأ تدريجيا الانفصال عن شمولية هويته التي ترسخت في ثقافته مئات السنين، والتمحور حول خصوصيته المحلية، التي أعادته إلى ثقافته العرقية وخصوصيته التاريخية لنجد أن العربي خلال تلك القطرية عاد للتفتيش عن خصوصيته التاريخية فبدأت التوصيفات التاريخية تغلب على ثقافة الشعوب العربية وتعيد إحياء طقوسها ورموزها مثل السومرية الذي التحف بها أهل العراق والفرعونية الذي تمجد بها أهل مصر والبابلية التي تغنى بحضارتها أهل الشام. كما بدأ العرب كمصطلح ينحصر على أهل الجزيرة العربية وتلك العودة إلى حاضنة التاريخ أدى إلى تقسيم العرب إلى شعوب متحضرة ويقصد بها أهل العراق ومصر والشام وشعوب بدوية ويقصد بها شعوب الجزيرة العربية، مع أن لعرب الجزيرة تاريخا ثقافيا كبيرا لا يُستهان به. وبعد ظهور النفط في الجزيرة العربية ومع قلة موارد بلدان الحضارات التاريخية أصبح هناك انزياحا ما بين التفوق التاريخي والتفوق الاقتصادي وهو انزياح أعلى من قيمة التفوق الاقتصادي مقابل التفوق التاريخي وهو تفوق أنتج العديد من التوصيفات التي أطلقت على عرب الجزيرة العربية مثل شعوب النفط وثقافة النفط وهي بلاشك توصيفات كانت تضمر الدلالة الرجعية لعرب الجزيرة العربية والتي مازالت حتى اليوم تظهر في مقولات بعض مثقفي العرب كلما حدث خلاف سياسي بين تلك البلدان وبلدان الجزيرة العربية والتي تعايرهم بالبداوة والرجعية وأنهم شعوب نفط بدون حضارة ومجرد ما ينفد النفط سيعودون إلى بداوتهم ورجعيتهم،-وسيفرد لهذه الفكرة موضوعا مستقلا-. في حين أن صورة العربي في الإعلام العالمي لا تفرق بين عرب الجزيرة العربية وعرب بلدان الحضارات القديمة فجميهم يمثلون دلالة الرجعية. وبذا سنجد أن التنوع التاريخي للعرب غير المتوازن والمتوازي كان من أسباب إفشال مشروع القومية العربية والتسريع في أفوله بدلا من أن يشدّ عضده؛ لأنه قسم العرب إلى أبناء النور وأبناء الظلام.