من التصاعد الإبداعي لعقود ظلت بعض الكاتبات السعوديات يتوارين خلف أسماء مستعارة مرةً، وأخرى خلف مسميات ذكورية رغبةً منهن في نشرٍ آمنٍ ومطمئنٍ؛ ولإيصال إبداعهن وكتاباتهن خوفًا من الاعتراض أو المنع، أو التعدي، أو الهجوم الذي قد يتعارض مع قفزات المرأة السعودية في رؤية الآخرين -في حِقبٍ منصرمة- كاتبةً كانت أم مشاركةً للأديب في المشهد الثقافي، أو كما شعر البعض في مرحلة من المراحل أنها دخيلة عليه، ولا يتوجب أن تقاسمه وتشاركه الإبداع. تلك حقبة قد مضت، وولّت، بل قد أضحت من تراكمات النسيان التي جاء بعدها ما يلغيها، وينسينا إياها، بل يجعلها كأنها لم تكن، وإن وجدت اليوم فهي نزر يسير. وبالعودة إلى الميزان الإبداعي النسائي السردي تحديدًا، وبقراءة عجلى ومقارنة بين الأمس واليوم لا شك أنه سيظهر لنا جليًا روائيات سعوديات مبدعات خرجن على الملأ بأعمال سردية إبداعية كثير منها عدّه بعض النقاد متفوقًا على أعمال روائيين هم أعلام في الرواية السعودية. فما الذي تغيّر برأيك بين تاريخ الكتابة في الظل، والكتابة في العلن؟ وبين زمن التخفي، وزمن الإبداع؟ ومن هنّ برأيك الروائيات السعوديات اللاتي صنعن هذه التصاعد الإبداعي في تاريخ مشهدنا الثقافي، وتحديدًا فن الرواية؟ وعندما وجهنا استطلاعنا إلى الدكتور محمد صالح الشنطي، وهو أديب وناقد معاصر مهتم بالرواية السعودية منذ نشأتها، وكتب عنها ونشر عدة مؤلفات تعدّ هي النواة لما كُتِب عن الرواية السعودية، يقول: ليس من السهل على الباحث في الرواية السعودية حصر أسماء الروائيات السعوديات اللواتي استطعن أن يخترقن جدار الصمت، ويحيّدن المحظورات الاجتماعية من أجل تشييد صرح روائي يتحدث بلسان أنثوي ويبوح بهموم المرأة في مجتمع محافظ، فقد تضافرت عوامل عدة أدت إلى بروز أصوات روائية نسائية تتفاوت في توجهاتها وانتماءاتها ورؤاها؛ وهذا أمر طبيعي بعد أن تشكّل مجتمع مدني قوامه طبقة متوسطة تملك مقومات نهضوية كاملة الأهلية من خلال شرائح فاعلة من الموظفين والتّجار والصّناع والملّاك والمعلمين والأكاديميين والمثقفين والعسكريين، وعبر فئات اجتماعية متنوّعة المشارب. ولعلّ من الإنصاف أن نشير إلى أن الروائيات اللواتي ينتمين الى الكوكبة الأولى من رائدات هذا الفن، شأنهن شأن زملائهن من الرواد ينتمين إلى المدن الكبرى مكة والمدينة وجدةوالرياض والدمام والمدن الأخرى، وليس ثمة شك في أن من أبرزهن: رجاء عالم في أعمالها المميّزة بنزعة تجريبية طموح، وبتوظيف تقنيات حديثة يتعالق فيها الواقعي مع الأسطوري مع الصوفي مع الشعري، كما في رواياتها طوق الحمام وطريق الحرير وعلى سن الشوكة، أهّلها ذلك لنيل جائزة البوكر المرموقة، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، وهي تمثل تيّاراً رؤيوياً وجمالياً. كما أن بدرية البشر في ملامستها للهموم الاجتماعيّة، النسوية على نحو خاص في رواياتها: هند والعسكر، وزائرات الخميس، وغراميات شارع الأعشى، والأرجوحة، وكذلك ليلى الأحيدب في عيون الثعالب، وأميمة الخميس وسارة العليوي وليلى الأحيدب وهي تمثل اتجاهاً واقعياً انتقادياً ويعبر عن رؤية نسوية. وقد برز اتجاه ثالث تجاوز البعد التجريبي والواقعي المحض إلى الاقتراب من (التابو) الذي يمس جوانب شديدة الحساسية فضلاً عن استثمارها لأسلوب الرسائل الإلكترونية، تمثل ذلك في رواية رجاء الصانع (بنات الرياض) التي ترجمت إلى أربعين لغة ووزعت ثلاثة ملايين نسخة، وفي هذا الإطار جاءت أعمال صبا الحرز وسمر المقرن وليلى الجهني وقماشة العليان وزينب حفني ووردة عبد الملك ووفاء عبد الرحمن وأثير النشمي التي راوحت بين الرومانسية الوجدانية والواقعية، وكاتبات أخريات لا يتسع المجال لذكر أسمائهن وأعمالهن. «الإبداع النسوي وقناع الكتابة» وأضاف الأستاذ الدكتور حسن بن أحمد النعمي، الأكاديمي والناقد، والمتخصص في الأدب السعودي معنوناً كتابته حول القضية ب: استحضار إبداع المرأة من خلال الكتابة استحضار استثنائي؛ لأن تقاليد المرأة مع الكتابة لم تكن دائماً في حالة نمو طبيعي، بل إن اقتراب المرأة من الكتابة، مجرد الكتابة كان مذموماً في تراثنا، وهو لا يزال في دائرة المراقب في وقتنا الحالي، وهو ما يستدعي التماهي مع التقنيع من خلال ابتكار آليات تساعد على الحضور الأدبي دون الوقوع في خط المواجهة. وإذا كان هناك كاتبات قد غامرن بالحضور دون أقنعة، فإن ذلك لا يلغي بقاء القناع بوصفة سمة مرافقة للكتابة النسائية، ليس محلياً فحسب، بل حتى عربياً. ولعله من المفيد أن نركز على تجربة الكتابة النسائية في السعودية للتدليل على هذه الظاهرة في مجتمع لا يزال يوصف بالمحافظة رغم مظاهر التمدن المختلفة. ولعليّ أقصر مناقشتي لقضية إبداع المرأة وعلاقتها بالكتابة من خلال تجربة المرأة الكاتبة في السعودية.. والموضوع قراءة ثقافية أكثر منها نقدية، مع الإحاطة ببيان القاعدة والاستثناء في ذلك، أي قاعدة اضطرار الكاتبات للتخفي بالأقنعة، واستثناء كشف القناع ودلالة هذا الكشف في سياق العلاقة مع المجتمع. ولعله من المفيد أن نحدد مفهوم القناع الذي نتناوله بالقراءة، فالقناع حائل بين ذات الكاتبة، وبين مجتمعها. ولأن ذاتها مقنعة فموضوعها منزوع القناع بالضرورة. وهي الغاية التي تكتب من أجلها من تتوشح بالقناع، بل إن صنيعها هذا يُعد إنكاراً للذات التي يراقبها المجتمع، فإذا بها تنتصر على مجتمعها بالخروج إليه بفكرها لا ببيئتها. وقد تنوعت أقنعة الكتابة حسب تموضع المرأة في السياق الثقافي والاجتماعي في تجربتها الإبداعية. فهناك قناع يمثل الوجود الخارجي للكاتبة، وهناك قناع ذكوري يمثل دعم الرجل لحضور المرأة، وهناك قناع يمثله لجوء الكاتبة للاسم المستعار، وهناك وجود مثله الرمز الأدبي أو التناص التاريخي لتغريب الكتابة عن واقعها. وإذ تحضر هذه الأقنعة في الكتابة النسائية، فإن ذلك بدأ في التناقص نسبياً حين مزقت المرأة الكاتبة أقنعتها، لكن هل بلورت خطابها بعيداً عن قناع ذاتها وأزمتها الوجودية مع الرجل؟ لنجيب عن هكذا سؤال يمكننا العودة لتقسيم الأقنعة لأقسام عدة: - قناع الكتابة الذكوري. - قناع الرمز الأدبي. - مواجهة القناع. - قناع الكتابة من الخارج. - قناع الاسم المستعار. وبوقوفنا عند (قناع الاسم المستعار) علينا الإشارة إلى آلية اللجوء إليه؛ بالمرأة تكتب لحاجة أبعد من الإبداع، تكتب لبلورة الذات النسوية في مقابل المجتمع الذكوري. فهي كتابة تبحث منذ البدء عن هوية الذات، وعن هوية الدور الاجتماعي، كتابة البحث عن الحقوق في مجتمع ينتقص من حقوقها. ولما كانت المرأة تقليدياً تمثل حد العيب الاجتماعي، ومقياس الشرف، كان حتى مجرد حضورها بالاسم يمثل انتهاكاً لشرف العائلة أو القبيلة.. والكاتبة هنا ستكون أمام خيارين إما أن لا تكتب، أو تكتب باسم مستعار. وخيار آخر: هو عدم الكتابة وهذا يعدّ حكم بالفناء على الكاتب، ولذلك فهو خيار مستبعد عند الكثيرات ممن يواجهن هذا التحدي؛ ومن هنا يصبح اللجوء لاسم مستعار وسيلة من وسائل الحضور، ليس مهماً في ذاته، بل في تمكين الكاتبة من التعبير عن فكرها دون التصادم مع امتدادها العائلي والقبلي. إذ ضرووة البوح بالفكر أهم من إثبات الذات أمام المجتمع. ولو عدنا لتتبع الخط الزمني الراصد لظهور المرأة الكاتبة في الأدب السعودي فإننا سنجد أول ظهور رسمي للمرأة كان مع طلائع الجيل الثاني في الخمسينات من القرن العشرين، عندما نشرت ثريا قابل ديوانها (الأوزان الباكية)، وفي الوقت نفسه، ظهرت كاتبتان باسمين مستعارين هما: (نداء، وغادة الصحراء). وهذا يشير إلى عدم تقبل المجتمع -بعد- لظهور اسم نسائي أدبي. وفي الستينات الميلادية أصدرت (سميرة بنت الجزيرة) سلسلة من الروايات تحت الانتساب لبيئة الجزيرة دون أن تحدد انتماءها العائلي. وقد يتساءل البعض ماذا عن حالة الشاعرة ثريا قابل؟ ثريا قابل نشأت في بيئة حجازية أكثر انفتاحاً وتقبلاً لحضور المرأة، مع عدم إغفال التبني الذكوري للكاتبة. فقد حظيت برعاية الأديب محمد حسن عواد وهو أحد رواد الإصلاح الاجتماعي، حيث مكنها من الحضور من خلال دعمه وتشجيعه لظهورها، وهو أمر يتكرر عندما يتبنى العواد بوصفه أول رئيس لنادي جدة الأدبي إصدار أول عمل قصصي نسائي من مطبوعات النادي (بسمة في بحيرات الدموع، 1979م) لعائشة زاهر أحمد. ولو تأملنا في هذه الحضور الصريح نلحظ وجود الغطاء الذكوري لحضور المرأة، فهل كان بوسعها أن تحضر دون قناع ذكوري؟! *** وحول ذات القضية التي غدت من الالتماسات التي نعود إليها في محاولة منّا لفتحها، وأخذ الأهمية من وراء مناقشتها وتسليط الضوء عليها أضاف الكاتب والروائي السعودي عواض شاهر قائلاً: الذي تغير في رأيي هو أن مساحة المسموح اجتماعياً ورقابياً اتسعت مع التغيرات الاجتماعية والثقافية التي مرت بها السعودية منذ عام 2000 على نحو تقريبي، كما أن انفتاح عوالم الكتابة والنشر على نطاق واسع سواء على منصات المواقع الالكترونية في فترة سابقة أم في النشر الورقي الذي بات من السهل اقتحامه في الإطار العربي، كل ذلك أسهم بنسبة كبيرة في رفع التردد عن الكتابة عند المرأة المبدعة ودفع بها إلى إطلاق إمكاناتها في السرد والشعر والنقد وأيضاً في الكتابة عن القضايا الاجتماعية من منظور ثقافي. حضور المرأة المؤهلة علمياً وثقافياً لم ينحصر في الأدب وإنما جاوزه إلى مجالات أخرى تتصل بالشأن الثقافي أو السيسيوثقافي مثل مشاركة الرجل في كتابة المقالات في الصحف على نطاق واسع، بل ارتفعت أسهم حضورها في الصحافة إلى حد إلغاء النمط الكتابي السقيم الذي لا يقول شيئاً ولا يرى شيئاً من زاوية الكاتب الرجل. صحيح، لم تبرز ظاهرة ثقافية واضحة ومؤثرة تقودها المرأة في العمود الصحفي، بل حتى في السجالات الثقافية التي تشارك فيها، لكن حضورها الذي لا تخطئه عين منصفة يشير إلى جدارتها وقوة دورها في أي ندوة ثقافية أو مؤتمر يعنى بذات الشأن في الداخل أو الخارج. في الأدب، والأدب في تجلياته الحديثة، والتجريبية على نحو ما، تبرز المرأة المبدعة في السرد المحلي، تبرز كمنتج مهم ومؤثر للإبداع يضاهي وقد يتفوق على كثير من المنتج العربي. وكاتبات متميزات مثل رجاء عالم، وأميمة الخميس، وفاطمة عبد الحميد، وليلى الجهني، وأمل الفارن، وسالمة الموشي وغيرهن، قدمن أعمالاً روائية حفلت بالقيمة الجمالية والثراء الموضوعي الذي يُكسبه تنوعاً وتمايزاً اختلاف التجارب وزوايا النظر عند كل منهن. *** ولأن الروائية النسوية وما مرت به من تقلبات وتحديات احتاجت إلى شاهدٍ من أهلها توجهنا بالاستطلاع إلى الدكتورة أسماء الأحمدي وهي أكاديمية متناولة للرواية النسائية ودارسة لها، وباحثة فيها أضافت: أتت الرواية النسوية لكسر الصورة النمطية التي ألفناها واقعًا، فتجاوزت حاجز الصمت؛ للبحث عن مجالات الحياة المغيّبة والتفتيش عن الحقوق المسلوبة ضمن التزام - متفاوت- القيود الدينية والأخلاقية - بفعل أصحابها المدّعين لتمثلها بحسب توجه الرواية النسائية- هنا اتخذت الكتابة سبيلًا لكسر مرحلة الاستتباب الظّاهري والصراع الداخلي، عبر لغة صامدة اخترقت التوقعات، ولكنها مثلت الصّحوة المتأخرة والنزف الذي أوشك على الفناء؛ محاولة لاسترداد الأنفاس وتصحيح مسار الانحراف نحو الهاوية واللا هُويّة، فما كان يُرى طبيعيًّا وعليها امتثاله، هو في الحقيقة مأزق الفقد للكينونة والتفرد والذّاتية، مسار أخرجها من دائرة التاريخ/ الزمن. - من المميزات التي أثرت الوجود الروائي النسائي: إنّ كتابة المرأة السعودية لهذا الجنس الأدبي، جعل منه مجالًا خصبًا للكشف الاجتماعي بعد مراحل من الصمت، الذي أودعته المرأة السعودية بوحها في كتاباتها الشعرية والقصصية من قَبل بشكلٍ رومانتيكي، وجاءت الرواية لتفتح المجال للمرأة السعودية؛ لعرض قضاياها بنفسها بصوتٍ أكثر وضوحًا، وتفهماً لقضاياها الحقيقية؛ الأمر الذي وجه الدراسات النَّقدية إلى البحث في هذا الجنس الروائي النسائي، واستبطان خطابه والإشكالات التي تنضوي تحت لوائه, ورصد التقنيات الفنية والدلالية لهذا الخطاب. كما أن الحاضنة الإعلامية- في الداخل والخارج- المتميزة التي أُفرِدت لأدب المرأة - إبداعًا ونقدًا في مرحلة تالية- مساحةً جيدة. فحفلت بإصداراتها، وروجت لكتاباتها, ورفعت من قيمة القضايا التي تطرحها، حد التبني أحيانًا. في زمن مضى كنّا ننظر إلى أن القيود الممارسة على الكاتبات لا تتعلق بالمرأة السعودية فقط، بل نظيراتها في الدول العربية؛ يعانين ذات الحصار، ولم يكن يتعلّق في مسألة التّصريح بالاسم فقط، بل أيضًا في مسألة البوح؛ لذا كان عليها أن تتعلّم من المواقف المشابهة، وتتخذ أسلوب المواربة والمداهنة بفعل اللغة، وتفهّم طبيعة المُستلب؛ لتأتيه من حيث يحب، فلغة الاستعلاء والتمرد من أسباب لجم لسانها وكتم أنفاسها؛ فالأبواب المغلقة لا تفتح بسلام إلا بمفاتيحها المشروعة - حسب رؤية المهيمن- وإلا ستتعرض للعنف والسلب، وإن كان ما أقدمت على أخذه يعد حقًا مشروعًا لها. وعليه يمكن التنبيه على أنّ الزّيادة الكميّة للنتّاج الروائي النسائي لا تعني بالضرورة تقدم للجانب الفني؛ إذ هناك تباين ملحوظ بين الروايات؛ مما لا يمكن الخروج بقراءة منطقيّة ومقاربة للإبداع النّسائي. - يلحظ على الروايات التي كتبت قبل عام 2005م كانت تعالج إشكالياتها بناءً على الواقع وفي إطار البيئة، أمّا بعد هذا العام فأخذت تسير في خط آخر، وتتطلّع لبيئات أخرى تنشد بها حريتها. - ويمكن الإشارة: من الأمور المسببة لبطء التغيير، ورفض التحوّل على مستوى المجتمع- في زمن ليس ببعيد -؛ كون الأفراد يحتكمون لجماعة أكبر يخطون خُطاها، ويمثّل الخروج عليهم خروجًا على النّظام الاجتماعي- رغم معرفتهم بنقص بعض الممارسات-؛ لذا ما يمكن قوله: إنّ التّحوّل الذي طال الرّواية النّسائيّة، وجعلها اليوم حقًّا مستحقًّا بدلاً من كونها تحت طائلة المنع، والحجب، والاستلاب (نشرًا ودراسة)، هو أن المرأة في زمن القانون المانح، وبذلك كل ما كان غير مستحق، أو في دائرة الشّك والإخفاء بات اليوم ممنوحًا؛ ممّا يمثّل دعمًا للرواية بشكل عام والرواية النسائية بشكلٍ خاص، ولا يمكن أيضًا إغفال بوادر الأمل المبشرة لحراك ثقافي متمثلاً في (وزارة الثقافة)، التي تطّل علينا كل يوم بمبادرات تشي ببعث إبداعي قد يطال مؤسساتها الثقافية يومًا ما..!. - وأخيرًا: تمثل الرَّقابة الذَّاتية سرَّ نجاح المُجتمعات المتحضّرة؛ فالحضارة تعني استقلاليَّة الذَّات تحت نظام رقابيّ داخليّ، تُمليه المُثل والقيم التي غُذيت بها الجوارح قبل الذَّاكرة، وإن كانت تبقى الرَّقابة الاجتماعيَّة سرَّ انضباط المجتمعات النَّامية بدونها تحدث فوضى اختلال التَّوازن وعشوائيَّة القرارات، بشرط أن تُقام على أفراد المجتمع بالكامل بعيدًا عن جنسه، ومرجعه ومحيطه، ومشاربه وثقافته، ولونه وجسده، ومنصبه..علوه أو دنوه، حينها تكون الرَّقابة ضابطًا لأيّ خللٍ قد يَحدث لو انتفت، لحين أن تتحوّل السُّلطة المجتمعيَّة إلى جهاتٍ قادرة على إحلال التَّوازن وتوزيع العدالة بعيدًا عن التَّعسف والإقصاء. *** ولنسلط الضوء أكثر فأكثر على استطلاعنا هذا كان لنا حوار صحفي مع إحدى مبدعات تلك الحِقبة الزمنية المنصرمة، التي واجهت هي ورفيقاتها ومن سبقهن من المبدعات المرحلة بحزم وإبداع أقنع لاحقاً المشاهد الثقافية بأكملها بأنّ القلم الإبداعي ليس ذكورياً فقط؛ لأن الإبداع خلق لكل شيء، وهو خصوصية بشرية لأن الله قلّده الإنسان تقليداً وأمّنه إياه أمانة ثم أهبطه إلى الأرض ليعمرها ويخلفه فيها؛ ولم يقاسمه بين الذكر والأنثى أو يحدد نسبه بينهما، وإنما تركه للبشرية كيما يستخرجونه من دواخلهم على هيئة مواهب. الروائية السعودية المبدعة أثير عبدالله النشمي، الكاتبة التي تصاعد إبداعها منذ البدايات وحتى ارتقت بأعمالها، بل حملت معها الأدب السعودي النسوي إلى منطقة لم يعد بإمكانه إلا البقاء فيها عالياً كإشارة منها وإصرار بأن الإبداع يتسع لجميع الأقلام، وربما لما مرّت به المرأة السعودية وتحديداً الكاتبات من مراحل لم تكن فيها الساحة متسعة ومغدقة إلا بالأقلام الذكورية؛ وبعض الصامدات؛ ربما لأن المساحات لم تكن تسمح إلا باستخدام أساليب لا تتطلب فيها المواجهة، بل يتطلب فيها الصبر لتنمية الإبداع حتى تبدو المرحلة قادرة على إقناع غير المقتنع بأن الإبداع ليس خاصية ذكورية؛ فهو أيضاً يتسع للتأنيث متى استطعنا أن نقولها بصدق أمام من كانت تجربتها تستحق أن توصف بأنها إبداعية. ولأننا في ملحق صحيفة الجزيرة الثقافية نسلط الضوء على حِقبة زمنية منصرمة واجهت مثل هذا الإجحاف، والإقصاء، والتجني ليس على مستوى الساحات الثقافية فحسب؛ بل كذلك على مستوى التلقي والمتلقي الذي تغيرت خلال السنوات الماضية عقليته وبدا يختار لنفسه دون وليّ على ذهنه، ولا مسيطر على اختياراته القرائية والانتقائية والذهنية؛ بعيداً عن التيارات المتصارعة في المشاهد الثقافية بتنوعها.. ومع صدور هذا الاستطلاع حول تلك المرحلة يسرنا أن نحاوركم باعتباركم روائية مبدعة حقاً حملت مع رفيقاتها من الكاتبات المبدعات الأخريات أدبنا السعودي وبلغن به الآفاق، ولاعتبار أنكِ منذ زمن البدايات التي سيطرت عليها هذه الشائبة الأدبية غير الصحية: * الروائية أثير عبدالله النشمي، أثناء توجيهنا لهذا الاستطلاع إلى سعادة الأديب المعاصر الشنطي حدثنا عن عدة أسماء إبداعية، وقال عنك: «وأثير النشمي التي راوحت بين الرومانسية الوجدانية والواقعية...» كيف ترين توصيفه الدقيق هذا على أعمالك؟ - سعدتُ حقيقة بأنني قد حظيت بشرف قراءة أديبنا الكبير محمد الشنطي لبعض أعمالي، لكنني لا أكتب الرواية الرومانسية فقط ولا أفضل أن تُنمط أعمالي وأن تُحصر في هذا النوع من الروايات, ربما كتبت روايتين رومانسيتين من أصل ستة روايات، لكنني أُدرك بطبيعة الحال أن الروايات الرومانسية الوجدانية أقرب ما تكون للقارئ العربي عن غيرها من الروايات. * في ديسمبر تنتهي كل الأحلام، روايتك الثانية، وديسمبر سردي يستدعيني للعودة بك إلى ما قبله بكثير؛ لأطرح عليك عدة تساؤلات في الحقبة التي سبقت إصدارك هذا: كيف استطاعت الروائية التي بداخلك أن تخوض التجربة في ظل تلك المواجهة المشهدية أمام كل روائية ستدخل المشهد الثقافي ولن يدافع، ويترافع عنها إلا إبداعها؟ وهل حدثت تحديات كبرى لم تبح بها الأستاذة أثير حتى الآن؟ - في ديسمبر تنتهي كل الأحلام كانت روايتي الثانية من بعد أحببتك أكثر مما ينبغي، ورُغم أنني كُنت صغيرة حينما قررت نشر روايتي الأولى وقد كن الروائيات السعوديات في ذلك الوقت لا يتجاوزن عدد أصابع اليدين، إلا أن قرار النشر كان سهلاً بالنسبة لي برغم المخاوف، فحينما تأتي من المجهول وبلا تاريخ ولا توقعات، يسهل عليك المُجازفة والإقدام على التجربة، على العكس تماماً بعدما يُصبح لك اسم معروف وتاريخ خاص بك، تتردد كثيراً عندما تقدم على نشر عمل جديد، الخوف من الفشل يُصبح أكبر، خاصة حينما تكون لديك شريحة كبيرة من القراء تعول كثيراً على كُل ما تنشر! * كيف تصفين المرحلة التي واجهت الأقلام النسوية وهي تبحث عن أسماء مستعارة، أو أخبية لتكتب من خلفها؟ وهل مارست أثير عبدالله النشمي هذا الاختباء في بداياتها وقبل أن تغدو روائية معروفة؟ - مارسته طبعاً، فالطبعة الأولى من روايتي الأولى صدرت بأسمي الأول والثاني فقط بدون اسم العائلة، وكان هذا لأنني كُنت أفضل أن أحتفظ بخصوصيتي لأطول فترة مُمكنة، لكنني أعتقد بأن أسباب غيري من الروائيات والكاتبات كانت مُختلفة، فلكل كاتبة منهن أسبابها الخاصة وهذا أمر مفهوم ومُقدر خاصة أن المُجتمع حينذاك لم يكُن ينظر للأدب بجدية، ما بالك إن كانت أديبة وإن كانت تطرح ما لم يكُن يقبل طرحه حينذاك!. * هل تتوقعين أنّ هناك مبدعات ما زلن يمارسن هذا التخفي خلف الأقنعة التي تؤذيها وتتمنى أن لو تتخلى عنها أو تظهر بدونها لتغدو واحدة من المبدعات التي تسهم في رفد الأدب السعودي بأعمال إبداعية رائعة؟ - نعم ما زالت موجودة باعتقادي، أقل بكثير مما كانت عليه، لكنها ما زالت موجودة ولأسبابِ كثيرة، الأسماء الصريحة لا تهم كثيراً برأيي بقدرِ ما تهم جودة الإنتاج الإبداعي، الكاتب الحقيقي يكتب ليُقرأ وليس ليُعرف.