كانت تحلم بأن «تصبح معلمة تاريخ» فأصبحت هي «تاريخ». نادية مراد المرأة التي امتلكت الشجاعة والقوة لنزع القناع عن وجه الشيطان ومحاكمته. فتاة في مقتبل الشباب كانت تلفها أحلام ككل الفتيات لم يخطر ببالها ولا ببال أي فتاة من طائفتها «الإيزيدية» في قرية «كوجو» الهادئة بجبل سنجار أن تتحول تلك القرية إلى شاهد عيان على إبادة جماعية لا لذنب سوى أن أهلها ينتمون إلى طائفة تتعارض مع أفكار الشيطان الداعشي. إما الناجيات من تلك الإبادة فبقاؤهن كان مقصودًا من قِبل ذلك الشيطان لتحويلهن إلى سبايا وجوارٍ واستعبادهن جسديًا وفي كتابها «الفتاة الأخيرة قصتي مع الأسر ومعركتي ضد تنظيم داعش» تصف نادية مراد أشكال ذلك الاستعباد والمتاجرة بالإيزيديات وكيفية الهروب من جحيم داعش ثم المطالبة بعدالة القصاص والمحاكمة، ليدرك القارئ حقًا بأن الشيطان كان هناك. كانت نادية مراد تقف في صف من الفتيات الإيزيديات أمام شياطين داعش وأعينهم وأيديهم تتحرش بأجسادهن كما تصف نادية في كتابها. 6700 إيزيدية تم أسرهن واختطافهن من قِبل داعش ثم حُبسن بعد ذلك داخل غرف مظلمة لتبدأ رحلة الاستعباد الجسدي والنفسي والمتاجرة بهن وبيعهن بحفنة من الدولارات. كانت أحلامها قبل الغرفة المظلمة تتراءى أمام عينيها لقد جاء داعش بفاشيته الشيطانية فدمر أحلامها لكنها لن تسمح له أن يدمر إرادتها في الحياة. ما يُميز نادية مراد عن غيرها ممن وقعنا في أسر داعش أن غيرها كسرها الألم والخوف فاختارت الانتحار للهروب من ذلك الجحيم أما هي فقاومت الكسر بل زادها الألم قوة وشجاعة حتى استطاعت الهرب من جحيم الإرهاب. ولم يكن الهروب الناجح بعد محاولات هروب فاشلة نهاية القصة بل هو بداية قصة كبرى قصة كما تقول في كتابها «من صميم الواقع فهي أفضل سلاح لدي ضد إرهاب أعتزمُ على استخدامه حتى يتم وضع هؤلاء الإرهابيين داخل قفص المحاكم». لم تستتر من ألمها ولم تتدثر بصمت قصتها خوفًا من الانتقام والفضيحة وأن تتحول الضحية إلى جانٍ بل قررت أن تحارب الإرهاب والاتجار بالنساء من خلال ذاكرتها المثخنة بذكريات الوجع والاضطهاد الفكري والنفسي والجسدي ولم تملك سوى أحداث ذاكرتها لتظل مأساتها ومأساة إبادة طائفتها على قيد الحياة حتى تقتص من الجناة. وهي كما وصفتها المحامية الحقوقية السيدة أمل علم الدين التي كتبت مقدمة كتاب الفتاة الأخيرة «رفضت السكوت ورفضت تسميات اليتيمة وضحية العنف الجنسي والعبدة اللاجئة ومع مرور الوقت استعادت نادية صوتها بل أصبحت صوت كل الإيزيديين ضحايا الإبادة الجماعية». حكايتها مثل المئات من حكايات النساء المقهورات والمضطهدات اللائي يتعرضن كل يوم إلى الإتجار والأذى الجسدي والنفسي والفكري لكنها تختلف عن تلك الحكايات المحبوسة في قهر وخوف الصمت؛ لأنها قررت البوح والإعلان حتى تكشف وجه الشيطان المختبئ خلف اللحى والعمائم ووحشية الإبادة المقصودة لطائفتها؛ لإهانة شرفهم لكن كما قالت «أرادوا المساس بشرفنا، لكنهم فقدوا شرفهم» من خلال قصتها التي روتها في كتاب الفتاة الأخيرة والذي وصفته صحيفة التايمز بأنه «كتاب مؤثر على لسان امرأة شجاعة وشهادة حية على قدرة البشر على ممارسة شر تقشعر منه الأبدان». فالحكايات هي أرواح هائمة بين الحياة والموت لا تغسلها الرحمة إلا بعد الثأر لها، لذا قررت أن تروي قصتها لتقديم «صورة لمصير الآلاف من النساء الإيزيديات اللاتي تعرضن للسبي والاغتصاب من قبل تنظيم داعش» قصة لتمثيل أولئك الذين ذهبوا ولا يمكن إعادتهم للحياة وبذكراهم يستمر النضال» قصة ليظل صوت الإبادة في آذان العالم مستيقظًا. نالت نادية مراد جائزة نوبل للسلام وغيرها من الجوائز والألقاب لأنها امرأة شجاعة قاومت الذوبان في جحيم الإرهاب والانكسار بعد الهروب وقهر صدمة الاعتداء وتحدث ثقافة العار التي تحيط بالضحية وناضلت لإيقاظ صوت الإبادة الصامت. ولأنها أرادت أن تحول تجربتها المؤلمة إلى نافذة ضوء تتسلل إلى الغرف المظلمة بالصمت والخوف والمعاناة ليظل الأمل بالنجاة من الظلمة قائما، فهي كما تقول «لا حياة لي ما لم أمنح الأمل لضحايا آخرين». السيدة «فيان دخيل» نالت جائزة برونوكرايسكي 2015، السيدة «نغم نوزات» أشجع امرأة دولية عام 2016، الناشطة الحقوقية «لمياء حجي بشار «التي اختطفها داعش وبيعت إلى طبيب عراقي ثم استطاعت الهرب والحاصلة على جائزة ساخاروف لحرية الفكر 2016 ثم نادية مراد، ناشطات إيزيديات استطعن تسليط الضوء على حياة الإيزيديين في ظل حكم داعش والظلم الذي تعرضت له هذه الطائفة من قتل للرجال واستحياء نسائهم أمام المنصات العالمية ومنظمات حقوق الإنسان. نساء استطعن تحدي صمت الإبادة والاحتفاظ بصوت الاختلاف وحق الحياة. فتحية تقدير لكل امرأة إيزيدية وعراقية ولكل امرأة قاومت وما تزال تقاوم الاضطهاد.