تطرق الأديب والشاعر اليمني الشاب أسامة المحوري في مقاله المعنون ب «الجمهور والعاطفة» للشاعر والفيلسوف والمفكر اليمني «عبدالله البردوني» -رحمه الله - والذي كان مع إبداعاته تلك بصيراً وناجياً من مرض الجدري؛ ومعلوم بالطبع ما يتركه هذا المرض من آثار في وجه وجسد من استطاع النفاذ من مهلكته، لا يمحها الزمن، تجعله يوصم بالدمامة ما بقي من حياته. أشار في وقفته تلك - وإن على عجالة - لقصته الشهيرة عندما سخر الحضور منه بداية عند صعوده للمنصة بملابسه الرثة وقت مشاركته في مهرجان أبي تمام بمدينة الموصل العراقية في عام 1971م أثناء إلقائه قصيدته العظيمة التي عارض فيها قصيدة أبي تمام الشهيرة في فتح عمورية والتي يقول مطلعها «السيف أصدق إنباءً من الكتبِ في حدِه الحدُ بين الجد واللعبِ». تلك القصيدة التي أحدثت دوياً هائلاً دفع الشاعر العراقي الكبير الجواهري لحظة سماعه للقيام من مجلسه، وقال مقولته الشهيرة «إن هذه القصيدة لا تُسمع إلا وقوفاً». إن صح ما نقل عنه وهو أقرب للصحة فدواعيه منطقية ومقبولة؛ وشاركه الوقوف والتصفيق يومها نزار قباني والبياتي وما أعظمهما. وكان مطلعها يقول: «ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ». وإن كانت تلك الحادثة - كما نعلم - قد أعلت من شأن «البردوني» عربياً وعالمياً؛ إلا أنها في نظر «المحوري» عرفت الجمهور اليمني بشاعرهم الجهبذ وبوأته المكانة التي كان يستحقها قبل ذلك بكثير، رغم أن أغلب اليمنيين - حسبما ذكر - لم يحفظوا شطراً من قصيدته الرائعة تلك. وكان كاتبنا يستخدم هذه القصة وباقي القصص التي سردها ومنها «الطفل بائع الماء» الذي أشتهر بعذوبة صوته، ولكن فقره هو من أوصله للمجد. استخدم كل ذلك للنفاذ للفكرة التي يريد إيصالها، بأن الشعب اليمني تحركه العواطف أكثر من الإبداع نفسه وهو في ذلك يؤكد ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الذي صححه البخاري ورواه أبي هريرة (أتاكم أهلُ اليمنِ، هم أرقُّ أفئدةً وألينُ قلوبًا، الإيمانُ يَمانٌ والحكمةُ يمانيةٌ). ولكن ما لم يقله أديبنا أن الأمر لا يخص اليمن وحدها، بل ينسحب على كافة الدول العربية تقريباً، ولا يتعلق بالمآسي ورقة القلوب فقط، بل يمتد لعدة عوامل أخرى، يُنظرُ إليها في تعاطينا مع مبدعينا، وهي غالباً لا تمتُّ إلى جوهر الإبداع الحقيقي بصلة. وتحت وطأة هذا الفكر المتجذّر تُقتلُ قامات إبداعية وأعمال كان من الممكن أن تُحدث الفارق في تاريخ الثقافة العربية. يقع في ذلك المطب للأسف حتى النقاد المتخصصون، ناهيك عن أصحاب دور النشر التجارية عند إجازتهم للمخطوطات التي تُعرض عليهم، والمؤسسات الثقافية المتنوعة في تعاطيها مع المبدعين، وهم بذلك يعزّزون النظرة المجتمعية الخاطئة بدل أن يقضوا عليها. هؤلاء، وبالطبع معهم شريحة كبيرة جداً من الجمهور، ينظرون للسن كعامل مهم، وأيضاً نوع الجنس. وربما تتداخل أيضاً عوامل أخرى، منها المحسوبيات والملاءات المالية، والحظوة الاجتماعية، والشهادات العلمية، وغيرها من العوامل القاتلة التي نصنف مبدعينا على أساسها. ولئن كانت بعض الحوادث والمآسي تؤصل الإبداع وتصقله وترعاه وتبعثه من مرقده وكذلك باقي العوامل التي قد تتداخل بطريقة أو بأخرى وتسهم في تشكيل شخصية المبدع الفنية - ولا مجال لإنكار ذلك - إلا أن الربط هو ما نرفضه. وعلينا، إن أردنا مضاهاة باقي الأمم والتفوق عليهم في مجال العناية بمبدعينا، الالتفات فقط للنتاج الفني والأدبي بعيداً عن الظروف التي أوجدته. إن لم نفعل سنكون مسعرين لمأساة حقيقية ضحيتها إبداعنا. ** **