مشهد سردي أسطوري باذخ يأخذنا فيه محمد علوان بألفة حكائية عذبة تلقائية نحو طقوسية شعبية مشوبة بحزنٍ شفيف، حالة حكائية مستغرقة في ميثوليجيتها الخاصة استحضاراً لروحٍ طليقة عزيزة وغائبة. تتجسد هذه الروح الأثيرة في صاحب البيت أو الزوج الراحل في طائر العشاء: (الخفاش)، لا يأتي إلاّ في أول الليل.. أو عند العِشاء.. حين يعشي الليل أطراف القرية وتطيب رائحة القهوة وبخار اللحم والثريد. الجدة أو (بنت علي) هنا تستوعب بحسها الخبير وحدسها الفطري الفكرة القارة في الوجدان الشعبي التي تكره هذا الطائر وتتوجس خيفة منه بدلالة الفزع الذي أنتاب أهل البيت من النساء والأطفال.. بنت علي: الجدة وبدلاً من ذلك تصنع أسطورة خاصة بها هنا تليق بسنها وبذكائها الفطري، وفطنتها وتوقها للحبيب الغائب، ولا تعبأ بالموروث والقابع في العقل الشعبي.. خوفاً أو تطيراً.. بل تتحول هي ذاتها كأسطورة حيّة ناطقة من لحمٍ ودم وهواجس وعذابات وحدوسات. لذا سأتوقف قليلاً أمام رمزية طائر العِشاء: الخفاش. فهذا الطائر الذي له سمات الحيوان وليس الطير، هو كائن بغيض في حياتنا الشعبية وموروثنا المعيشي اليومي وهو ما ألمح إليه القاص علوان ولم يغفله في متن قصته من قبل عائلة الجدة بنت علي.. غير أن السؤال لماذا احتفت به الجدة واعتنت به تكحيلاً وتحنيناً، وهو المعروف عنه بعماه رغم نفي ذلك عند بعض العارفين.؟ هنا يتجلى البعد الميثولوجي الجديد الحكائي الذي يسربل سياق القص كله، فالتكحيل يزيد من حدة البصر والتحنين يضفي على الخطو جمالاً أليفاً قريباً من الروح والمعيش.. لأن الروح ذاتها تذهب لكنها تدخل من جديد عبر النوافذ في الليالي المعتمة والماطرة حسب اعتقادات الجدة، وتتجسد في هذا الطائر في أوجهه المتعددة: الكريهة، والأليفة، والغامضة، والمرعبة تحلّ كضيفٍ مباغت وترحل بشكلٍ مباغت. الرعب والخوف الذي انتاب أهل البيت ليس كامناً في الطائر ذاته، بل في كونه يحل ضيفاً رمزياً خفيفاً يهيئ له الطعام والحناء والكحل في العينين ثم يطلق من جديد في جوف الظلام. حكاية أسطورية عذبة أجاد علوان إعادة صياغتها في سردية بالغة الجمال ومفردات شعرية سلسة مفعمة بفنيّة مبدعة قريبة من روح المكان والزمان بعد أن استدعاها من الذاكرة والوجدان. ** **